قضايا وآراء

الحكامة الجامعية

1300x600
يعتبر مصطلح "حكامة" من المفردات الوافدة على اللسان العربي، وقد ارتبط ظهوره، ودخوله مجال التداول بحزمة من المفاهيم والمصطلحات المرتبطة به والمتكاملة معه، تعود أصولها أساساً إلى أدبيات المنظمات الدولية منذ صدور أول تقرير للتنمية البشرية عام 1991 - 1992. غير أنه، وعلى الرغم من حداثته، فقد غزا المجال التداولي العربي، وكثر استعماله وتضخّم توظيفه إلى درجة المبالغة والتخمة أحياناً، خصوصاً عبر وسائل الإعلام بكل أنواعها وأشكالها. بيد أن القارئ النبيه يُدرك، بالمقابل، أن استعمال مصطلح الحكامة شيء وتمثله وممارسته في الواقع شيء آخر.. فكثير ممن يوظفون المصطلح صباحاً يمارسون نقيضَه زوالاً حتى لا نقول ليلاً، وتلك هي المُفارقة اللافتة للانتباه في واقع الممارسة السياسية والثقافية المغربية مع الأسف.

أركز في هذا العمود على الحكامة في الجامعة المغربية، ليس بوصفها مصفوفةً من الآليات التقنية للتدبير، كما هو مفهوم لدى البعض، بل بحسبها قيمةً ذات حُمولة ثقافية ومعرفية ناظمة لسلوك الفاعلين الأساسيين في المنظومة الجامعية المغربية. أما السبب الداعي إلى ذلك، فمرده إلى ما يوجه لبعض مؤسسات الجامعة المغربية من اتهامات وملاحظات ذات علاقة بعدم احترم متطلبات النزاهة والحكامة الجيدة في التدبير والتسيير. والواقع، أنني كتبت أكثر من مرة عن هذا الموضوع، إما تخصيصاً، أو في سياق الحديث عن مواجع الجامعة المغربية وتحدياتها، والمهام المطلوبة منها.

غير أنني قبل الولوج إلى صلب الموضوع، أود الإشارة إلى أن الجامعة المغربية التي تجر وارءها قرابة الستين سنة منذ تأسيسها أواخر خمسينيات القرن الماضي، أعطت الكثير، وساهمت في بناء أجيال متعاقبة، وكانت على الدوام مَشتلاً لتكوين جزء يسير من النخبة المغربية، والأكثر كان لها دور ريادي في تنمية شراكات علمية وتربوية منتظمة، يشهد عليها حضورها النوعي والوازن في أكثر من بلد عربي وإفريقي، وفي جامعات العالم. غير أنها، مع الأسف، وفي سياقات مجتمعية موسومة بتغير سلبي لمنظومة القيم، تعرضت لسلسة من الممارسات المُضرّة بسمعتها، والمؤثرة سلباً على أدائها وتقدمها، والمسؤولة عن تراجعها في خريطة الجامعات العالمية وسلالم ترتيبها. أما علة ذلك، أي مصادر هذه الممارسات، فتتوزع على الإصلاحات الجامعية التي طالت مؤسساتها منذ العام 2001، ونوعية قياداتها، أي بعض رؤساء الجامعات والعمداء، الذين أخروا مؤسساتهم أكثر مما ساعدوها على الاستقرار والنهوض، وعينة جديدة من الأساتذة، وهم قلة عدديا، همّهم الوحيد الإضرار بالمؤسسات عبر سلوكياتهم المشينة والضارة بالجامعة ورسالتها في التنشئة والبحث العلميين؛ ونشر قيم التحصيل والتنوير وتكافؤ الفرص.. يُهرولون من أجل "تنمية مواردهم المالية"، غير مدركين أن التعليم ليس طريق الاغتناء والإثراء بغير حق، وأن رسالته المعنوية أهم من مكاسبه المادية.. يفترون على العلم والمعرفة، وضياعهم اللاّمتناهي في البحث عن "فتات الموائد"، لا يترك لهم مجالا للانتباه إلى أسرهم، فبالأحرى القيام بواجباتهم المهنية.. والقائمة طويلة من الأوصاف المنطبقة على هذه العينة البشرية التي ابتليت بها الجامعة المغربية في العقدين الأخيرين.

يحضرني في هذا السياق ما حصل في أكثر من مؤسسة جامعية، كان آخرها ما تمّ تداوله عبر وسائل التواصل الاجتماعي في إحدى كليات جامعة فاس، وما نُشر عن مؤسسات أخرى بجامعات أخرى في وسط البلاد وجنوبها. أما الخيط الناظم لكل ما نُشر، فيمكن حصرُه في تفشي ظاهرة الفساد في العملية التعليمية. طبعا، ما أثير من قبل وسائل التواصل الاجتماعي، وأحيانا بالصوت المسجل، للقضاء وحده سلطة إثبات صحته من عدمها، وعلى السلطات الوصية تحمل المسؤولية في التحري والتحقيق والإحالة على القضاء من ثبتت في حقهم هذه الاتهامات.

قرأت منتصف تسعينيات القرن الماضي تقريرا جيداً وشاملا عن الحكامة في نماذج من الجامعات العربية أعده صندوق الأمم المتحدة للتنمية (UNDP)، من ضمنها بعض الجامعات المغربية، وقد خلص كتّابه إلى استنتاجات مهمة وخطيرة عن تفشي الفساد في المؤسسات الجامعية، وخطورة استمراره على التحصيل المعرفي والبحث العلمي في هذه الجامعات.. وليس بعيدا توصلت تقارير "المجلس الأعلى للحسابات" إلى تشخيص مكان الفساد الإداري والمالي في الكثير من مؤسسات الجامعة المغربية.. فبقيت، مع الأسف، دون متابعة قضائية فاعلة.. بل إن القانون (00 -01) الخاص بالتعليم العالي أشار إلى الكثير من الآليات لضمان الحكامة في التدبير الجامعي، ناهيك عن أن البرنامج الحكومي منذ الموافقة على صيغته الأول مستهل عام 2012 جعل من أولوياته المساءلة والمحاسبة. وفوق هذا وذاك، وضع المجلس الأعلى للتعليم ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي، إشاعة ثقافة الحكامة في الجامعة المغربية من الأولويات الواحب العناية بها، والاشتغال من أجل افسالها في السياسات العمومية ذات الصلة بالجامعة ومؤسساتها.

إن الجامعة المغربية التي أعطت الكثير، وأعدت أجيالاً من الكفاءات في كل المجالات، ونبغت فيها أسماء لها سمعة علمية دولية، وساهمت في تكوين قيادات اقليمية وجهوية، ما زال بمقدورها، وبتضافر جهود الخيرين من أساتذتها وطلابها وإدارييها، وهم كثر، أن تتمكن من تطهير الطفيليات التي طفحت أضرارها على العملية التعليمية والبحثية، وعلى سمعة الجامعة، إن هي لقيت إلى جانبها إرادة حقيقية لمساءلة ومحاسبة من كان وراء من حصل ويحصل من سلوكيات مشينة في رحاب مؤسساتها.. أما الاكتفاء بالتلويح بالمحاسبة دون تطبيق، فيعرض الجامعة لأخطار وتراجعات أكثر.. وأخطر ضرر أن تتراجع القيمة الدولية لمخرجات الجامعة المغربية، كما حصل لنظيراتها في بعض الدول في محيطنا العربي.