كتاب عربي 21

مشاوير النقصان

1300x600

(1)
لا تبدأ في قراءة هذا المقال الآن، توقف قليلا.. أغمض عينيك لعدة ثوان، ثم افتحهما ببطء، ارفع رأسك وانظر لأعلى الصفحة، ثم اضغط على لوجو "عربي21"..

أنت ترى الآن تشكيلة متنوعة من الأخبار والتغطيات والأبواب المختصة بالسياسة والاقتصاد والرياضة ومجالات الدنيا كافة، هذا يعني أن هذا المقال (أو قسم المقالات كله) ليس ملزما بالحبس داخل صندوق الأخبار، الحياة أوسع من الخبر وأكبر من الحدث. فالوقائع لا تكفي وحدها لفهم العالم، والحقائق لا تكفي الإنسان منذ بدء الخليقة، لذلك لم يستغن أبدا عن الخيال والأساطير ولا عن الأكاذيب والمبالغات، ولا عن الفن والضحك، ولا عن مطاردة الغيب ومعاشرة الأسئلة الوجودية، لذلك يشعر الإنسان دائما بالنقصان، لأنه يجتهد للإحاطة بكل شيء فلا يقدر، يتعب في محاولة تأسيس نظرية شاملة لحركة وإدارة العالم، لكن العالم يفاجئه بأنه عصي على الإحاطة، ولا بد من الجري الدائم وراء فراشة مغوية لا يمكن الإمساك بها أبدا.

ولا تنسوا أن هذه المقدمة "المتعَبَة" تعبير تطبيقي لحالة النقصان التي نشعر بها، ونشكو منها، قبل أن نواصل الجري كلٌ وراء فراشاته.

(2)
لدي عشرات المقالات المبتسرة، معظمها ينتهي بوعد الاستكمال، لكن الحياة المشوشة التي ندور في صحرائها، لا تسمح لنا بأكثر من الكلمات الناقصة، والوعود مؤجلة الوفاء، والقفز المتعجل من موضوع إلى موضوع آخر دونما ارتواء ولا شفاء. المؤسف في هذا اللهاث أنني تربيت على حلم "المشاريع الكبرى"، بينما المرحلة تتمادى في التكسير اللامتناهي وتقطيع أوصال كل نسق، بحيث لا يبقى على الرقعة المموهة إلا قصاصات يناطح بعضها بعضا رافضة الجوار والحوار معا.

(3)
كنت قد كتبت عن نجاح النظام المصري الحالي في تطبيق خطة "الصدمة والترويع" على المستوى السياسي الداخلي، بعد سنوات من تطبيقها عسكريا في الحرب الأمريكية ضد العراق، وأوضحت أنني أعاني من أعراض تلك الصدمات العنيفة التي أراد النظام من خلالها تشويشنا، وسحق إرادتنا وإرغامنا على المشي في مسارات محكومة؛ تشبه ما أسماه بالممر الآمن يوم فض اعتصامي رابعة والنهضة، كما تشبه المرر الحديدي لدخول ملعب الدفاع الجوي، والذي تحول إلى مصيدة موت أودت بحياة العشرات دهسا و"فعصا". ومنذ عامين تقريبا اشعر أنني "كاتب ضال"، لأن الكاتب عندما يفقد منصاته ومنابره فهو يفقد جمهوره المتابع، ويعرض بضاعته على الرصيف منتظرا قارئ الصدفة، وبالتالي تتعثر أفكاره وتتأثر رسائله، ولا يستفيد من الزمن في إنجاز أي تراكم معرفي أو تأسيس مدرسة فكرية أو شق طريق. ولمن لا يفهم مأساة الكاتب في هذه الحالة الصعبة، عليه أن يتخيلني مثلا أقف متحفزا، أرفع المطرقة بعزم في الهواء، والمعدن ملتهب وقابل للتشكل لكن السندان مفقود.. لا يوجد سندان!

(4)
لهذا أصبحت أقولها لنفسي بصدق كل صباح: لم أعد أعرف لمن أكتب، 
فمخاطبة الجمهور المتنوع و"قارئ الصدفة" لا تغني الكاتب عما نسميه "القارئ الضمني" أو "القارئ المفترض"، وهو المتلقي الذي يتخيله الكاتب، فيرسم ملامحه ويخاطبه، ويبني معه علاقة لها تاريخ، ويقيس عليه جدوى الكتابة وتأثيرها، كما يقيس مدى تطور الوعي باتجاه المشروع أو شكل الحياة التي يقترحها الكاتب كهدف عام، وليس كحياة فردية منعزلة عن بقية الناس. فالكتابة ليست تعبيرا عن اللحظة ووصفا لما كان وما يحدث وفقط، لكنها بالأساس فعل من أجل الغد.. فعل دافع لاستمرار الحياة، وإقناع آخرين تهمهم حياتنا بأن الأجمل ممكن، وأن علينا انتظاره معا في نهار سيأتي، فإذا فقد الكاتب أولئك الآخرين (الذين لا يعرفهم كأشخاص لكنهم ضرورة لوجوده ذاته) فإن الكتابة تتكاسل، وتثبط همتها، وتخبو أنفاسها في صدره.

(5)
صحيح أن الساحة تغص بالكتابة، وصحيح أنها لم تعد "التاريخ"، ولم تعد هناك حاجة لنحت تماثيل للكاتب، وصحيح أنها صارت مهنة مطاردة وغريبة، وصحيح أنها صارت سلعة رخيصة في زمن التسليع، لكن كل هذا لم ينتصر عليها تماما، فالأقوياء والأغنياء والطغاة يخافونها، لكن هناك شيئا ناقص في الكتابة هذه الأيام، هناك شيء غائب نال من روحها ومن دورها ومن عظمتها.

هذا الشيء يشغلني، وقد بدأت في رحلة جديدة للبحث عنه في الآفاق البعيدة، ومطاردته في الدروب الوعرة، ربما نعيد للكتابة بعضا مما سرقه منها اللصوص والجهلاء والطغاة، وبعضا مما فقدته في سجون رد الفعل، ومعسكرات العبودية، ومهانة التعذيب تحت سياط الخبر.

قريبا.. كتابة جديدة أكثر اتساعا، أمتع وأجمل وأشمل برغم نقصانها.

الرحلة مستمرة...

tamahi@hotmail.com