كتاب عربي 21

قمع الرأي المخالف إذ يوحد النظام العربي

1300x600

لم تكن أداة الاعتقال السياسي ظاهرة للعيان في الأنظمة الوراثية الملكية، وخاصة تلك التي لم تشملها موجات الربيع العربي باستثناء المغرب أو البحرين في مراحل مختلفة ولكن بأقل حدة عن تلك التي تمارس في الأنظمة الجمهورية العسكرية أو الأمنية. لكنها اليوم، ومع حملة الاعتقالات الكبيرة التي عرفتها السعودية والإمارات مع سجن النشطاء والشيوخ والدعاة والمعارضين السياسيين، فإن الرقعة الجغرافية لسياسة قمع الرأي ومصادرته بصدد التوسع لتشمل بشكل متساوَي كامل المنطقة العربية. 


وباستثناء المغرب الذي يعرف من حين لآخر احتجاجات اجتماعية مهمة، فإن بقية الرقعة السياسية الوراثية لم تعرف اعتقالات على خلفيات مطلبية بشكل متواتر وبالحجم الذي عرفته الدول الأخرى بسبب الطبيعة الاجتماعية والسياسية لكل دولة. اقتصر الأمر في الأنظمة الوراثية على حالات منفردة مثل قضية المعارض الشيعي البارز "نمر النمر" في السعودية مثلا أو "مجموعة البرلمانيين" في الكويت إلى وقت قريب. 


أول الخلاصات المهمة إذن تتمثل في تماثل الفعل السياسي العربي بين النظام الملكي الوراثي والنظام الجمهوري في مسألة التعامل مع المعارضين السياسيين بشكل واضح.  


يمكن القول اليوم إن الحدود التي تفصل بين الشكلين السياسيين الأبرز عربيا، أي الملكي الوراثي من جهة والجمهوري العسكري أو الأمني من جهة أخرى هي بصدد الاختفاء على السطح، وإن كانت الحدود بينهما غير موجودة تقريبا على مستوى العمق باستثناءات شكلية بسيطة. 


إن ما يوحد الفعل السياسي العربي اليوم هو أكبر مما يفرقه، وبذلك يمكن القول إن البنية السياسية العربية على مستوى التصور والفعل صارت موحدة أكثر من أي وقت مضى.


القمع السياسي في مناخ جديد

 

 ثاني الخلاصات المهمة تتصل بالسياق الجديد الذي تندرج فيه التطورات الأخيرة فيما يتعلق بردود فعل السلطة السياسية عربيا لأن الأحداث الأخيرة في المنطقة وخاصة منها "ثورات الربيع" تمثل إطارا جديدا قادرا على قراءة خصائص هذه الظاهرة وتبين ملامحها الأساسية أسبابا ومسارات وأهدافا. فالسياق الجديد بكل مضامينه وخاصة ما تعلق منها بدور القمع السياسي ومصادرة الرأي المخالف في تأجيج المطالب الشعبية وإلهام التحركات الاجتماعية وتأجيجيها يستدعي أخذه بعين الاعتبار لبناء منطق سياسي جديد يختلف عن المنطق السياسي السابق لثورات الربيع. 


إن تمدد سياسة القمع ومصادرة الرأي تؤكد أن النظام السياسي العربي لم يتعلم من دروس الربيع ولا يزال يعتبر الأساليب القديمة قادرة على تحقيق الهدف منها وهو أمر يكشف قدرا كبيرا من قصر النظر ومن إغفال أهم المستجدات في الساحة العربية وخاصة ما تعلق منها بالوعي الاجتماعي للجماهير.


إن الاحتجاجات الشعبية التي أسقطت أنظمة عربية خلال العقد الأخير والتي لا تزال تتفاعل في المنطقة شرقا وغربا تؤشر في أحد مستوياتها على تحول نوعي في طبيعة الوعي العربي وفي نظرته إلى سياسة القمع التي تمارسها الأنظمة السياسية. فالتجربة التونسية والليبية والسورية وكذلك المصرية أثبتت أن القمع السياسي مهما بلغت حدته يبقى عاجزا عن تحقيق السلم الاجتماعي بل إنها أكدت أنه محرك من أهم محركات المطلبية الاجتماعية.  


قنابل موقوتة

 

 ثالث الخلاصات إنما تتجلى في وعي السلطة السياسية بعدم شرعية منطق التعامل السياسي الذي تفرضه على مجتمعاتها وأساسا على المعارضة السياسية أحزابا وأفرادا وجمعيات. يظهر ذلك جليا في جملة من المعطيات لعل أولها مجموع الشعارات التي ترفعها الدول العربية سواء في المحافل الدولية لتثبت ـ زورًا ـ التزامها بالقوانين والأعراف والمواثيق الدولية. كما يظهر وعي السلطة السياسية بشرعية مطالب حرية التفكير والتعبير في إقراراها نصوصا قانونية داخلية تؤكد أن حق التعبير مكفول دستوريا وقانونيا. لكن أبرز الأمثلة والنماذج على وعي السلطة السياسية بخرقها للقانون وبشرعية المطلب الاجتماعي المتعلق بحرية الرأي والتعبير يظهر خلال أوج الأزمات السياسية أو حين يشعر النظام السياسي بتهديد وجودي مثلما حدث خلال الانتفاضات الشعبية الأخيرة. ففي الخطاب الأخير الذي توجه به الرئيس التونسي "بن على" إلى شعبه أياما قليلة قبل فراره، ركز الأخير على مسألة الحريات التي استأثرت تقريبا بكل خطابه عندما وعد التونسيين ـ كل التونسيين ـ بمزيد من الحريات وأعلن أنه كان مخطئا في قمع الرأي المعارض وفي مصادرة الرأي الآخر. 


إن وعي السلطة السياسية بمصادرة حرية التعبير يختلف عن وعيها بمخاطر هذه المصادرة على استقرار السلطة السياسية نفسها، أي أن إدراك الحاكم لعدم شرعية ردود أفعاله تجاه الخطاب المخالف يختلف كليا عن إدراكه لتبعات ذلك على تثبيت حكمه على المدييْن المتوسط والبعيد خاصة. فالقدرة على التحكم بالدولة والمجتمع على المدى القصير تختلف عن تحقيق نفس القدرة على المديين المتوسط والبعيد وهو ما يجعل من هذه الممارسات قنابل موقوتة ومفخخات قد تنفجر في كل حين مهددة الاستقرار الاجتماعي والسياسي للدولة. 


هذه الخلاصة الأخيرة تكشف بكل جلاء أن منطق الحكم السياسي في المنطقة العربية يتميز أساسا بمبدأ العشوائية والتخبط وقصر النظر، حيث لا تهتم السلطة السياسية إلا بمنع التهديدات المباشرة للاستقرار السياسي على الأمد القصير مستعملة وسائل تحمل في طياتها بذور الفوضى المقبلة وعلى رأسها محاربة الحريات بكل أشكالها. 


مراجعة مطلوبة

 

 إن موجات الانتفاضات الشعبية التي تعرفها الحواضر العربية كانت في الحقيقة إعلانا عن انتهاء فعل معين في السياسة الرسمية العربية، وكانت إيذانا بأن هذا الفعل السياسي قد وصل إلى نهايته وأنه يستوجب المراجعة والتغيير. لأن الاستمرار في هذا المنهج بالتعامل القمعي مع الرأي المخالف سيكون مهددا لاستقرار النظام السياسي وسيستعيد آجلا أم عاجلا وسائله التعبيرية الاحتجاجية في الشارع. 


ليست حرية التعبير إذن مطلبا شعبيا اجتماعيا أو فرديا فقط بل هي في جوهرها واحدة من أهم أسس الاستقرار السياسي وضامن مركزي لتحقيق أمن الدولة والمجتمع على السواء. إن إمعان السلطة السياسية عربيا في تجاهل هذا المطلب وفي إنكار خطورته على استقرار المنطقة وإنكار دوره في تغذية العنف والنزوع إلى التطرف إنما يمثل مشاركة حقيقية في تهديد أمن المنطقة وتهديد استقرارها بشكل مباشر.