قضايا وآراء

صياغة العقل الاستراتيجي الجمعي ومأسسة القرار (2- 6)

1300x600
لقد أصبحت علوم دراسـات المسـتقبليات، نظم دعم القرار، الذكاء الاصطناعي والمعلوماتية هي علوم أساسية عند صياغة العقل الاستراتيجي الجمعي، حيث المساعـدة في استشراف المستقبل وفرصه وتهديداته المتوقعة، ورسم السياسات المبكرة وتقييمها، خاصـة فـي إدارة الأزمات والتخطيط الاستراتيجي طويل المدى.

ومن أهم التحديات التي يواجها صانعي السياسات ومتخذي القرار الاستراتيجي طويل المدى؛ عدم التيقن والضبابية، وصعوبة تحديد وتوصيف المتغيرات الهائلة والمؤثرة في اتخاذ القرار والنتائج المترتبة عليه، كذلك، التشابك والتعقيد في العلاقات البينية بين هذه المتغيرات، وأخيرا، تعظيم الفائدة من الخبراء المتخصصين وأصحاب الحدس واستشراف المستقبليات وخلق بيئة من التوافق في آرائهم وليس شرطا الإجماع.

فعـدم الـتيقن والضبابية (Uncertainty) في الرؤية المستقبلية ينتج عن قـلة الـمعلومـات الداعمة في تحليل الحالة الراهنة والمستقبلية؛ من نقاط الضعف والقوة والفرص والتهديدات، وتحليل المنافسين واللاعبين الأساسيين في المشهد. ثم تأتي صعوبة تحديد ودراسة المتغيرات المؤثرة في القرار والتعقيد الكبير (Complexity) في دراسة العلاقات البنية بينها؛ حائلا من إيجاد نظام معادلاتي كمي ملموس (System of equations) يمثل العلاقات بين هذه المتغيرات لقياس تأثير كل متغير على الآخر وتأثيرهم على المتغيرات الحاكمة لاتخاذ القرار (Policy variables).

وأخيرا، توفر الخبراء أصحاب الحدس/ المستقبليون (The Futurists) القادرون على استشراف المستقبل وأزماته وفرصه، وتأثير حدوث الـشوارد (Wildcards)، وھي أحداث مستقبلية ذات احتمالية حـدوث ضعيفة وتأثير قوي إذا حـدثـت، مثال لها تسونامي آسيا وأحداث أيلول/ سبتمبر بالولايات المتحدة والأزمة المالية العالمية 2007..

ولعل أقرب مثالين نشهدهم حاليا على أهمية العقل الاستراتيجي الجمعي ومأسسة القرار ما تطبقه تركيا من سياسات في إدارة أزمتها مع الولايات المتحدة، وتأثيرها على عملتها ومجابهتها للحرب الاقتصادية عليها. ورغم خطورة الأزمة الحالية بتركيا، إلا أن وجود مأسسة القرار ومشاركة النخب الخبيرة الوطنية في إدارة الأزمة وسيناريوهاتها المتعددة بسياسات علمية راشدة، كل ذلك قلل كثيرا من الخسائر والتهديدات، بل بالعكس قد يكون من المتوقع أن تحول تركيا هذه الأزمة إلى فرصة كبيرة للنمو وخلق التكتلات الاقتصادية الجديدة.

على النقيض تجد أزمة قضايا التعويضات التجارية على مصر في السنوات الأخيرة، والتي كبدت الدولة المصرية مليارات الدولارات، وما زالت، بسبب العشوائية وتغييب مأسسة القرار رغم وفرة العقول الخبيرة الوطنية المتخصصة، ولكن تم إسناد الأمر كالعادة لأهل الثقة عديمي الخبرة؛ بداية من صياغة العقود التجارية حتى التقاضي أمام المحاكم الدولية.

إن دراسة واستشراف المستقبليات ودعم القرار وما يحتاجه من صياغة العقل الاستراتيجي الجمعي لم يعد دربا من التنجيم، بل هو علم متخصص قائم علي نظريات ومنهجيات وأدوات ويعتمد علي الأساليب والنماذج الكيفية والكمية (Quailtaive and Quantitative)، وأهم ما يميزه هو أنه يدعم السيناريوهات لمستقبليات متعددة وليس لرؤية أحادية ومستقبل واحد، مما يضيء الطريق ويمهده أمام صانعي السياسات ومتخذي القرار للتعامل بالتخطيط المسبق (Proactive manner)، حيث اختبار السياسات وتقييمها بأساليب النمذجة والمحاكاة (Modeling and Simulation) وليس الانتظار والتعامل بردود الفعل (Reactive manner) والارتجال في أزمات تحتاج لجودة وسرعة في اتخاذ القرار.

وعلم دراسة واستشراف المستقبليات ودعم القرار ليس بالعلم الجديد على الثقافة والتاريخ الإسلامي. فأول المستشرفين كان مسلما، وهو سيدنا نوح عليه السلام الذي أنقذ الحياة على الأرض، وتبعه نبينا يوسف الصديق بإدارة أزمة مستقبلية سوف تأتي بعد أكثر من العشر سنوات؛ بقرارات رشيدة وسياسات حفظت العالم بأسره من المجاعة.

وجاء الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وسلم، ليؤسس للعقل الاستراتيجي الجمعي القائم على التشاركية وتعظيم الاستفادة من أهل الخبرات واستشراف المستقبل والتنبؤ بالفتوحات الإسلامية، والذي أهّل العرب لكي يؤسسوا أعظم الحضارات، ويسودوا العلم، ويهزموا أعظم الإمبراطوريات التي عاصروها: الفرس والروم.