قضايا وآراء

أجندة السيسي في أمريكا و"حشود السندوتشات"

1300x600
رغم أن الاجتماعات السنوية للأمم المتحدة تبدو في الغالب روتينية، ما لم تكن هناك قضية مصيرية مطروحة على جدول أعمالها، ولا يحرص كثير من القادة الدوليين على المشاركة فيها؛ منيبين نوابهم أو وزراء خارجيتهم لتمثيل بلدانهم فيها، إلا أن عبد الفتاح السيسي حريص دوما على المشاركة في تلك الاجتماعات وسط زفة إعلامية "كدابة"، وحشود طائفية مصطنعة لا تحدث مع أي من الرؤساء الحقيقيين (هذه الزيارة هي السادسة له إلى الولايات المتحدة منذ انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013).

كان الرد الطبيعي المفترض على إهانة ترامب للسيسي ووصفه له "بالقاتل اللعين" هو الغياب عن تلك الاجتماعات، أو على الأقل رفض مقابلة ترامب أو مصافحته. كان ذلك ممكنا بالطبع لو كان السيسي رئيسا حقيقيا، جاء بإرادة شعبية حرة، إلا أنه يدرك أن جزءا من الفضل في وجوده وبقائه يعود للأمريكان، وخاصة صديقه "المنفلت" دونالد ترامب الذي وصفه بذلك الوصف الفاحش، رغم أنه وصف العلاقة التي تجمعهما من قبل بالكيمياء الخاصة!!

ماذا يريد إذن السيسي من هكذا زيارة تكلف ميزانية الدولة المثقلة أصلا بالمزيد من الأعباء؟ وماذا تريد الكنيسة القبطية من عمليات الحشد الواسعة والإنفاق السخي عليها لاستقبال السيسي؟ وماذا يريد مناوئو السيسي الذين يلاحقونه كعادتهم في كل مرة؟

من الواضح أن السيسي لا يترك مناسبة دولية دون مشاركة بهدف تثبيت نفسه بين القادة الدوليين، وإقناع زعماء العالم بالتعامل معه بشكل طبيعي، ودعم حكمه في مواجهة تنامي الغضب الشعبي ضده. ورغم الإساءة التي تعرض لها السيسي من ترامب وتناقلتها وسائل الإعلام الدولية، إلا أنه حرص على مقابلته. لن تكون المقابلة لرد الصاع صاعين لترامب ولكن للحصول على دعمه السياسي في مشاريعه التسلطية والتي قد يكون من بينها تغيير الدستور ليمنحه مدة أو مددا إضافية، فالسيسي يعلم أن تغيير الدستور تحديدا لا بد أن يمر عبر بوابة الرضا الأمريكي، كما سيواصل السيسي ضغوطه على ترامب لتصنيف جماعة الإخوان كجماعة إرهابية قبل أن يرحل من البيت الأبيض. وهذه النقطة حساسة جدا للسيسي أيضا، وهي الاطمئنان إلى فرص استمرار ترامب في الحكم. وقد أبدى هذا القلق في اتصال سابق مع ترامب فضحه الأخير في حديثه مع بوب وودورد، مؤلف كتاب الخوف، والذي تضمن بعض الفقرات المهينة للسيسي دون أي رد فعل من الجانب المصري.

جاءت زيارة السيسي إلى الولايات المتحدة هذه المرة في ظل تفاقم أزمات سياسية واقتصادية داخلية في مصر؛ كان من مظاهرها القبض ثم الإفراج عن الشقيقين جمال وعلاء مبارك، واعتقال 27 ضابطا من كثيبة واحدة، وتغيير مدير المخابرات الحربية اللواء محمد الشحات، مع تصاعد الاعتقالات بحق المعارضين السياسيين الذين كانوا جزءا من 30 حزيران/ يونيو، والتصعيد ضد الإخوان بمصادرة ممتلكاتهم، ناهيك عن تفجر بعض الأزمات الإقليمية، وآخرها الهجوم على عرض عسكري إيراني أودى بحياة 25 عسكريا، وما تبعه من تهديدات إيرانية للدول المتهمة بالوقوف خلف العملية، وتفجر الوضع في العاصمة الليبية طرابلس، وهي أحداث تلقي بظلال قاتمة على نظام السيسي الذي اغتنم فرصة الاجتماع الدوري للأمم المتحدة فهرول إلى من يتوقع لديه دعما. لكن الغريب أن الخارجية الأمريكية استبقت الزيارة بانتقادات لانتهاكات حقوق الإنسان في مصر، خاصة حرية التعبير وحبس الصحفيين والنشطاء، وهو ما تضمنه أيضا تقرير منظمة العفو الدولية قبيل الزيارة، وهو ما يثبت مجددا أن النظام الأمريكي، وإن وقف على رأسه ترامب بما لديه من صلاحيات كبيرة، إلا أن هناك مؤسسات أخرى داخل النظام لديها تقديرات سلبية للوضع في مصر. وإذا كان من الواضح أن ترامب يتعامل مع الجميع بطريقة رجل الأعمال، فعلى الأرجح سيطلب هو الدعم من السيسي عبر صفقات غير مفيدة لمصر، لكنها تكلف ميزانييتها المترهلة بمليارات الدولارات، وستدعي أذرع السيسي أنها فتحا مبينا للاقتصاد المصري.

الحشد الطائفي لدعم السيسي هو أمر معتاد خلال كل زياراته السابقة، لكنه كان يتم في البداية بمبادرات محلية من أقباط المهجر الذين وجدوا في السيسي بطلا قوميا خلصهم من حكم الإخوان، لكن هذا الشعور تلاشى مع الوقت مع تصاعد الأزمات الطائفية التي تعرض لها المسيحيون في ظل حكم السيسي الذي كانوا ينتظرون منه الحماية. ومع تراجع هذا الشعور لدى أقباط المهجر، فقد تدخلت قيادة الكنيسة القبطية في القاهرة مباشرة هذه المرة، فأوفدت العديد من رموزها للتجول في الولايات المتحدة لحث المسيحيين على المشاركة في استقبال السيسي، ولم يقتصر الأمر على بعض كبار القساوسة بل وصل إلى رأس الكنيسة نفسه الأنبا تواضروس الذي استبق زيارة السيسي ليكون في طليعة مستقبليه، في فضيحة سياسية مدوية تكشف انغماس الكنيسة في العمل السياسي المباشر، وخلطها للدين بالسياسة بشكل فج، حين دعت المسيحيين باسم الرب لاستقبال السيسي، وهو ما أثار موجة من الجدل والانتقادات، والغريب أن الأقباط الذين قبلوا دعوة الكنيسة للمشاركة في استقبال السيسي هم من الذين يشكون الاضطهاد في مصر، وكان ذلك سببا في هجرتهم أو لجوئهم إلى الولايات المتحدة. لكن في المقابل، ظهر أن هناك مسيحييين آخرين رفضوا المشاركة، ورفضوا تحركات الكنيسة، وقاموا بتسريب تلك الفيديوات لرجال الدين من داخل الكنائس خلال تشجيعهم للمسيحيين على الحضور باسم الرب، ونظير سندوتشات ومشروبات باردة مع توفير حافلات مجانية للنقل.

لا تقدم قيادة الكنيسة هذه الخدمات مجانا للسيسي فهي إما أنها أثمان لمواقف وقرارات سابقة للسيسي أشار إليها بعض المتحدثين الكنسيين مثل السماح ببناء كنائس وعلى رأسها الكنيسة الكبرى في العاصمة الإدارية الجديدة، أو وعود ببناء المزيد من الكنائس، والاستجابة لطلبات أخرى للكنيسة، لكن الكنيسة بهذه التصرفات تزكي الروح الطائفية التي يعاني الوطن كله من آثارها، وتكرس نظام "الملة" وليس الدولة الذي تحصل من خلاله على مكتسبات من الحاكم مباشرة دون مرور بنظم الدولة وقوانينها. وقد كان بالإمكان سن تشريع وطني لبناء دور العبادة يتيح للمسيحيين بناء الكنائس التي يحتاجونها، لكن الكنيسة نفسها هي التي رفضت هذا القانون بعد ثورة يناير، رغم أنها طالبت به من قبل كثيرا؛ لأنها وجدت أنه سيجعل بناء الكنائس أمرا روتينيا لا دور لها فيه.

في مقابل الحشود الطائفية التي تنظمها وتنفق عليها الكنيسة القبطية، هناك المصريون الأحرار من مناهضي الحكم العسكري (مسلمين ومسيحيين) الذين يتحركون من تلقاء أنفسهم في كل مرة للتظاهر ضد زيارة السيسي، ويدفعون من جيوبهم تكاليف تنقلاتهم، وتعطلهم عن أعمالهم، معتبرين ذلك الحد الأدنى لدعم قضية الحرية في وطنهم الأم الذي كانوا يشتاقون لرؤيته في وضع مماثل للدول الديمقراطية المتقدمة. وهؤلاء المصريون الأحرار لا يألون جهدا في التواصل مع الأمم المتحدة وهيئاتها، والمنظمات الحقوقية والمراكز البحثية، والكونجرس بغرفتيه، لفضح ممارسات نظام السيسي ضد الشعب المصري ومطالبة الإدارة الأمريكية بوقف دعمها لهذا القمع. ورغم الإمكانيات المادية الضعيفة لهؤلاء، إلا أنهم سجلوا نجاحات تحسب لهم في مقابل تحركات كبرى للوبيات ضغط مدفوعة الأجر من الإمارات والسعودية دعما لنظام السيسي، لكن يبقى دائما الحق أبلجا.