قضايا وآراء

القابضون على الجمر

1300x600

"نحن فقط نحاول، لكننا جميعا ننتظر النموذج المثالي يخرج من مصر"، سمعت هذه المقولة التي نقلها أحد كوادر جماعة الإخوان المسلمين عام 2003 عندما كنتُ في أحد المراكز البحثية في مصر، لحضور ندوة حول الرؤية السياسية لجماعة الاخوان المسلمين.

 

وتُنسب هذه المقولة للزعيم الإسلامي التركي نجم الدين أربكان. وبصرف النظر عن صحة المقولة من عدمها، الا أن الحقيقة هي أن هذه قناعة كانت سائدة داخل جماعة الاخوان المسلمين في مصر، فلطالما اعتبرت الجماعة الام في مصر نفسها أنها قبلة ما بات يُعرف بـ"الإسلام السياسي" في العالم، وتشعر ان النموذج الذي سوف تقدمه، سيكون ملهما للحركات الإسلامية حول العالم. 


ولذلك أراده قادتها نموذجا مثاليا بلا أخطاء، يعتمد على السياسة النظيفة بعيدا عن الألعاب القذرة. 
وهذا ما يفسر بشكل كبير سلوك الاخوان المسلمين في مصر بعد الثورة وحتى الانقلاب. السلوك الذي يسميه البعض "سذاجة"، ولكني أميلُ إلى أن أسميه "مثالية" في التعامل مع منظومة حكم تعتمد اقذر الوسائل السياسية للحفاظ على مكاسبها في مصر، تستطيع ان تقول انها مثالية في مكانها الخطأ. 

 

لا أحد ينكر أن جماعة الإخوان المسلمين هي أكبر حركة إسلامية في السبعين عاما الماضية، ولعبت دورا كبيراً ورياديا في الحفاظ على الإسلام السُني الوسطي في العالم. ولم تكن الحركة تريد أن تلوث هذا الدور الكبير بالألعاب القذرة في السياسة، بحيث تتحول إلى كيان مسخ لا هو إسلامي ولا هو علماني، لن تَقبل ذلك ولن يُقبل منها ذلك. 

 

هذا القيد الكبير يحد من مساحة مناورة الجماعة في دهاليز السياسة المصرية. دعونا لا ندخل في نقاش جدلي لا ينتهي حول أخطائهم في هذه الفترة، والتي لا ينكرها أحد. لكن يجب أن نؤكد على حقيقة أن جزءا كبيرا من دوافع إتخاذ قراراتهم المصيرية يعود بشكل كبير إلي نقطة حوارنا اليوم وهو "كيف سيؤثر على الحركة الإسلامية حول العالم، وهل ما إذا كان سيقدم نموذجا إسلاميا يحتذى به". 

 

في الفترة التي تلت الثورة المضادة توالت الضربات قوية على التنظيم الدولي للإخوان. ولم تكن هذ الضربات أبداً أقوى من الصفعات التي تلقتها  الجماعة من بعض الحركات التي كانت جزءاً منها يوما ما. فلقد فضلت بعض الحركات الإسلامية التي تعرضت لضربات الثورة المضادة أن تتخفف من عبء التبعية للجماعة الأم.  

 

فمثلا أعلن إخوان الأردن عن فك الارتباط بالجماعة الأم في مصر، وهي خطوة تبدو منطقية، إلا أنها أيضا تعتبر تخليا عن الحركة الأم في ظل ظروف سيئة للغاية تمر بها الجماعة، ففي هذا الوقت بالذات، كانت جماعة الاخوان المسلمين أحوج ما تكون لأي دعم، وهي التي لم تتخل عن أي من الحركات الاسلامية حتى في أحلك اللحظات. فبصماتها واضحة من أفغانستان إلى البوسنة، لكن في الحقيقة الوضع الحالي أقوى من الجميع. 

 

أما الصفعة القوية فكانت من حركة النهضة في تونس، فلقد ذهبت بعيدا للغاية، حيث أعلنت أنها لم تكن جزءاً من الإخوان يوما ما، وهو أمر غير صحيح مطلقا. كما شهدت تحولات فكرية كبيرة تنازلت فيها عن كامل ثوابتها تقريبا، في تحول هو أقرب إلى الانسلاخ من جلدها كي تبدو حركة "حداثية". 

 

فإذا نظرنا قليلا إلى التحولات التي شهدتها حركة النهضة في الفترة الأخيرة وكيف أن هذه التحولات كانت سببا أدى الى ان "نجت" من ويلات الثورة المضادة، وذلك بـسبب "ذكاء" قيادتها و "استشرافهم"  المستقبل، كما يحلو للبعض أن يوصف المشهد النهضوي، إلا أن الحقيقة أن الحركة تخلت عن جزء كبير من فكرها الإسلامي وتنازلت عن ثوابت كثيرة، صدمت الحاضنة الإسلامية في تونس وقاعدتها الجماهيرية. 

 

فالتحولات الكبيرة التي شهدتها النهضة كان يبدو وكأن الحركة مقدمة على تحولات جذرية وليس مجرد فك الارتباط وحسب. فقد أقدمت على فصل العمل الدعوي عن السياسي "شمولية الإسلام" وهو يهدم الفكرة التي قامت عليها جماعة الاخوان بالكامل، وهذا أخطر مافي الامر، لأن هذا يعد انتكاسة كبيرة في سير الحركة، كحركة إسلامية. بات واضحا أن النهضة ترسل رسالة للعالم أنها مجرد حزب سياسي تونسي كان له تاريخ إسلامي لكن تنازلنا عنه من أجل البقاء. والامثلة كثيرة أيضا في الساحة المحيطة بنا عن التقلبات داخل الحركة الإسلامية بفعل الثورة المضادة. في وسط هذه التقلبات في المنطقة فضلت جماعة الإخوان المسلمين في مصر أن يكونوا ضحية، افضل من أن يفرطوا في ثوابت قامت عليها الجماعة، وضحى في سبيلها الآلاف على مر السنيين. هذا يحسب لهم ولا يحسب عليهم . فلقد فضلت قيادات الإخوان المسلمين الاعتقال وأعواد المشانق على أن يفرطوا ويتنازلوا، وإن كانوا قادرين على التنازل والتفريط والتعاون مع المجلس العسكري في فترة من الفترات. 


فقد طلب أوباما من الرئيس مرسي الاستسلام للثورة المضادة، قائلا له "هذا زمن التنازلات الكبرى". إلا انهم لم يفعلوا ذلك من أجل ألا يضعوا أنفسهم في موقف مثل موقف النهضة الآن، حيث يضطر بعض قادتها للدفاع عن لجنة تحارب ثوابت الدين من أجل أن يثبتوا للجميع أن كونهم حركة إسلامية كان في زمن ماض ولكنه ولى بغير عودة، ويصدّروا أنفسهم كحركة انبعثت من جديد، خلعت ثوبها الإسلامي وارتدت ثوب "الحداثة"، ولسانُ حالها يقول "للدين ربٌ يحميه". 

 

في الحقيقة يجب أن ننحني احتراما لهؤلاء القابضين على الجمر في سجون السيسي، الثابتين على مبادئ ناصعة البياض لا يختلف عليها اثنان.  فمهما كانت جماعة الاخوان المسلمين قد أخطأت في الفترة الماضية، وتعرضت لهزائم متتالية، إلا أنها قدمت نموذجا رائعا في الثبات على المبادئ والمواقف في ظل أشرس هجمة تتعرض لها الحركة الإسلامية.

 

ثبات عرّى أنظمة الحكم العربية أمام شعوبهم، وفضح دعاة الليبرالية ومتشدقي الدفاع عن حقوق الانسان. أنا اعتقد أنه ورغم الظلام الحالك الذي يخيم على منطقتنا العربية، إلا أن  هذا الصمود الكبير سيظل علامة فارقة في تاريخ جماعة رفضت أن تخضع لجميع الحكومات على السواء. هذا الاحترام لا يجب أن يمنعنا أو يمنعهم من مراجعة الأخطاء الكارثية في الفترة الماضية، والتي كان بالإمكان تجنب وقوعها او الخروج بخسائر أقل. كما كان بالإمكان أن تدار المرحلة بشكل أفضل وأكثر حنكة سياسية. 

 

أنا أؤمن أن التاريخ كما أنه سيفضح قادة الثورة المضادة يوما ما، سيقف كثيرا أمام صمود هؤلاء القابعين في سجون الطغاة.