كتاب عربي 21

هل تنتكس التجربة الديمقراطية التونسية؟

1300x600
نستبشر بتحديد الرئيس لموعد الانتخابات القادمة (2019)، بعد أسبوع نطرح سؤالا عن مستقبل التجربة برمتها. ليس في هذا تسرع في الحكم، بقدر ما هي علامات على هشاشة التجربة التي يمكن أن يعصف بها شخص أو تيار أقلي متطرف. التجربة هشة حتى الآن، والناس في ريب مما يجري ويقال، ويجْهِز الإعلام التحريضي المسيس على احتمالات بناء أفكار ثابتة على مدى طويل.

الأسبوع الأول من شهر تشرين الأول/ أكتوبر؛ مر تحت وقع استئناف المعركة السياسية والإعلامية بين أحزاب اليسار وحزب النهضة الإسلامي. معركة قديمة بل أزلية لا تضع أوزارها إلا لتشتعل من جديد. ماذا يريد اليسار؟ إنه يريد تونس بلا إسلاميين ولكن بأية وسيلة، ولفائدة من؟ والسؤال عن الفائدة ضروري؛ لأن الجميع يرى الجبهة اليسارية تخوض معارك غيرها وتغنم الفتات، بينما يذهب فيء المعركة إلى المنظومة القديمة.

أطراف المعركة وأهدافهم

ظاهر المعركة بين تيار اليسار وبين حزب النهضة. ليس بين القوتين مودة بل عداء؛ منذ نشأتهما في الجامعة في السبعينات من القرن الماضي. وهذه ليست المعركة الأولى من حربهما، بل من حرب اليسار على الإسلاميين للإنصاف التاريخي، فقد مرت أربعون سنة عاش الإسلاميون أغلب ردهاتها داخل السجون، وكان بعض اليسار هم الجلادون في الزنازين. الثورة أعادت المعركة إلى السطح، وقد ضُربت الثورة في مقتل عندما تجددت الخصومة، وقد خالها البعض تلاشت في الثورة ووقف الجميع صفا واحدا، لكن ذلك كان وهما سرعان ما انكشف.

اغتيلت قيادات يسارية واتُهمت النهضة، رغم أن منطق الأحداث يبرئها. الاغتيالات أسقطت النهضة عن سدة الحكم، وكانت خسائرها غير قابلة للجبر. جاء الرئيس الحالي بوعد كشف القتلة، ثم ألزم اليسار بالصمت حتى يحكم بلا ضجة، فسكت اليسار بأمر. انتهت فترة التوافق بين الرئيس وحزب النهضة، فأطلق اليسار قضيته من جديد، كأنما تلقى إيعازا أو أمرا عسكريا بذلك، وها نحن نشفق أن تنهار التجربة برمتها من جديد.

ليس اليسار من يجني ثمرة المعركة، بل مكونات المنظومة الفاسدة.. يتبين أن اليسار يعمل لديها. نضُم الوقائع إلى بعضها، لنجد أن اليسار يسير بأمر المنظومة. ويوجه قوته نحو نقطة واحدة منع النهضة من الحكم أو الاقتراب منه، ولا بأس أن يرمي بها في السجون والمنافي من جديد. هذه العصا الغليظة تُشهر عندما تحتاجها المنظومة، لذلك فهي غير مهتمة بالعمل كحزب سياسي يساري لديه فسحة عمل حقيقية في هذا الظرف بالذات. سكتت الجبهة عن ثاراتها بأمر الرئيس وتكلمت بأمره، وهو ليس أكثر من مدير تنفيذي للمنظومة التي قامت عليها الثورة. لماذا تجددت المعركة الآن؟ وما فائدة المنظومة من تجددها؟

الانتخابات على الأبواب، وإذا سارت الأمور على ما هي عليه الآن فالنتيجة مضمونة للنهضة.. ستجد نفسها حزبا أول له حق تشكيل حكومة، وتصير مكونات المنظومة تابعا أو ملحقا، بل يمكن العثور على أحلاف كافية لإخراجها من الحكم. لذلك وجب قطع الطريق عليها، بما في ذلك خلق وضع سياسي يستحيل معه إجراء الانتخابات، وهنا يأتي دور جبهة اليسار.

أطراف أخرى في المعركة

هي مكونات الطيف الديمقراطي أو الحزيبات الصغيرة العاجزة عن تكوين رصيد بشري في الوضع الراهن؛ لضعف في قياداتها ولقصور في أفكارها وأساليب عملها. فهي ليست أحزابا جماهيرية، بل أحزاب نخب تجمّع من داخل طبقة الموظفين والأعمال الحرة الكسولة عن التفكير في أبعد من مصالحها الفردية، كشأن الطبقة الوسطى دوما.

تعرف هذا الفئات أن فواضل (أو عطاء) المنظومة المنهارة ستكون أكبر مما قد يمنحها حزب فتي ومنظم؛ وصنع له كوادر قد تغنيه عن خدماتها إذا عرضتها.

تصور هذه الحزيبات النهضة كغول يهجم على البلد ليفترسه لذلك، فهي تتخذ موقفا متواطئا مع اليسار طمعا في تحجيم النهضة (لا مانع من القضاء عليها). وهو ما يذكر بموقف سابق لمكوّنات المعارضة التونسية أول حكم ابن علي، إذ تواطأت معه طمعا في أن يمنحها مكانة النهضة، فلما أجهز على النهضة التف عليها؛ لأن المنظومة وابن علي إحدى مراحلها لا تحب أن تقسم قد تمنح ترضيات قليلة، لكنها أشد جشعا من أن تفرط في المهم.

هذا الطيف المرتبك يعيد إنتاج الفشل السياسي؛ لأن مكونات الشارع المسيس تريد أن تكون خارج المعركة، لكنها لا تجد فيه بديلها. فتردده يقضى عليه، ويسمح للمنظومة بأن تقود المعركة حيث تشاء.

هل النهضة بريئة ومسكينة؟

يطيب لأنصار الحزب ترويج خطاب المسكنة ويستثمرون في وضع الضحية إلى حد البؤس. وتعمل القيادة على استدامة حالة الغموض حول موقفها مما يحاك للعملية الديمقراطية.. قال أحدهم: يلعبون خطة التسلل، مستهينين بخطر الاضطراب الاجتماعي المترصد بالجميع. 

هل ثمة حكم في الساحة يعلن وقوع الخصوم في التسلل؟ لا نرى ذلك، بل نرى أن التدرج في العنف سيمر من اللفظي إلى المادي، بما يحدث خللا في المؤسسات يؤدي إلى قطع الطريق على الانتخابات.

الانتخابات في موعدها هي السبيل الوحيدة لبقاء النهضة في المشهد السياسي التونسي، مثلما أن الانتخابات هي الضمان الوحيد لاستمرار هذا المسار، رغم أنه لن ينتج (يقينا) الحكومة القادرة على معجزة إنقاذ.

هل يمكن إجراء حوار علني بين الخصوم؟ لا أعرف استعدادات النهضة لذلك، ولكن أعرف أن جبهة اليسار ترفضه. لذلك، وجب العودة إلى القضاء، فيصلا أخيرا لفض النزاع وإخراج البلد من أتون معركة لا ناقة له فيها ولا جمل؛ خربت ماضيه وتخرب مستقبله.

لا أرى سببا وجيها لهروب النهضة من اللجوء إلى القضاء في ما يكال لها من تهم. ونحتاج من خارج هذه المعركة إلى جهة ثالثة تمحص صدق الوثائق المعروضة على الرأي العام. سيظل هناك من يرفض تصديق حكم المحكمة، لكن ذلك ليس سببا للتنصل من الاستعانة بحكم يعلن التسلل أو يقبل الهدف المسجل.

اعتبار ما أعلنت عنه الجبهة نباح على قافلة تسير لم يعد يقنع الكثيرين، ويعطي مصداقية لتحليلات تآمرية ترى أن هناك تقسيم أدوار بين اليسار والنهضة لربح معارك انتخابية على أساس الاستقطاب الهوياتي.

إنها مرحلة تقتضي أن يقف كل مؤمن بالقضاء إلى جانب دفع الخلاف إلى القضاء؛ قبل تصديق من ادعى ومن ادُعي عليه.