كتب

قراءة في تحولات العقل السياسي لحركة "النهضة" التونسية

قال بأن إسلاميي تونس طوروا فكر الحركة الإصلاحية واستوعبوا فكر الإخوان وحداثة الغرب (عربي21)

الكتاب: تحولات الإسلام السياسي
حركة النهضة نموذجا (1971-2014)
المؤلف: مبارك صالح الجري
الناشر: مركز نماء للدراسات والبحوث ضمن دراسات الحالة الإسلامية (13)
عدد الصفحات 365


تتميز هذه الدراسة التي أنتجها الباحث الكويتي الشاب مبارك صالح الجري، بتتبع دقيق لمسار حركة "النهضة" التونسية، وبمساهمة مقدرة في تفسير تحولاتها الفكرية والسياسية، وبإعمال أحدث المقاربات النظرية في قراءة تطور كسبها السياسي. 

النشأة والمسار

تركز الدراسة على رصد وتفسير مسار حركة "النهضة" الفكري والسياسي منذ تأسيسها حتى الانتخابات الرئاسية التي تلت الثورة التونسية (1972 – 2014 م)، وتشتغل على خمسة أسئلة أساسية: فهم مدى تأثر فكر حركة "النهضة" بالمجال الثقافي التداولي التونسي، وكيفية تبلور فكرها السياسي، ودور الثورة في ذلك التحول، والعوامل التي جعلت من هذه الحركة فاعلا رئيسيا في المعادلة السياسية بعد الثورة التونسية، وانعكاسات تجربة حركة النهضة على التحول الديمقراطي في تونس.

تكمن أهمية هده الأسئلة في كونها تناقش جدل التأثير والتأثر، وكيف ساهم الواقع السياسي في تحول فكر وسلوك حركة "النهضة". وأيضا، كيف ساهمت مواقف حركة النهضة وتحولاتها في دعم مسار التحول الديمقراطي في تونس.

انطلق الباحث في الاشتباك مع هذه الأسئلة البحثية من أربع فرضيات أساسية: تأثير ثقافة المجتمع التونسي في فكر النهضة وتبرير تحولاتها ومراجعاتها، وأثر التفاعل مع الواقع المجتمعي وتبلور رؤيتها السياسية، ثم أثر الثورة في إنضاج فكرها وسلوكها السياسي، ودور الاندماج السياسي لحركة "النهضة" في دفعها لترجيح أولوية إنجاح الانتقال الديمقراطي على أولوية تقوية الذات.

وبعيدا عن التناول الوثائقي أو السردي المعني بتتبع المواقف ومحاولة تفسيرها، حاول الباحث الاستعانة في اشتغاله البحثي بمداخل نظرية متعددة، وظف من خلالها مقترح "الحقول المعرفية" لبيير بورديو، و"المشاركة السياسية" لصمويل هنغتنتون، واستفاد من الرصيد النظري حول "الحركات الاجتماعية"، كما استعان أيضا بمدخل "الثقافة السياسية" لاختبار فرضياته الأربع.

في الهوية الثقافية

 

اشتغل البحث في فصله الأول على هوية الحركة الثقافية، محاولا تثبيت فرضية تماهيها مع حركة الثقافة التونسية، وانتظامها فيها، من خلال طرح فكرة امتدادها للحركة الإصلاحية التونسية، إذ أثبت البحث من خلال تتبع أدبيات الحركتين، الإصلاحية وحركة "النهضة"، ومقارنة مخرجاتهما الفكرية ومواقفها اتجاه التراث والثقافة الغربية، وكذا بعض الاجتهادات المرتبطة بالحقوق والحريات ومفردات الفكر السياسي المعاصر، وفرضية الامتداد، وأن حركة "النهضة" لم تنطلق فكريا من تاريخ تأسيسها، ولا من تاريخ الإرهاصات التي تسبق في العادة لحظة التأسيس، وإنما انطلقت فكريا من الرصيد الذي قدمته الحركة الإصلاحية التونسية في تعبيراتها المختلفة (خير الدين، الطاهر ابن عاشور)، وأنها حملته وطورته، وواصلت نسج أفكارها وبلورة اختياراتها من الأرضية نفسها التي انطلقت منها الحركة الإصلاحية.

كما اشتغل الفصل ذاته، على بحث علاقة حركة "النهضة" بالإخوان المسلمين، بحكم أن هذا الموضوع يشوش على فرضية الامتداد، ويؤسس لفرضية "غربة" ثقافة حركة "النهضة" عن التربة الثقافية التونسيةّ، فحاول البحث استعراض عناصر هذه العلاقة، مستعينا في تفسير مساراتها بفرضية الاستيعاب والتجاوز، تلك الفرضية التي تعني تفاعل حركة "النهضة" مع أدبيات الإخوان، واستيعابها لأهم مفاصلها، والتعامل الذكي معها، بما يعنيه ذلك تبيئة بعض المفاهيم القابلة للعيش داخل البيئة التونسية، ونقد وتجاوز ما لا ينسجم مع المعادلة الثقافية والسياسية التونسية.

وعلى عكس فرضية الامتداد التي ثبتت الصلة بين حركة "النهضة" والحركة الإصلاحية، فقد انتهى الباحث من فحص العلاقة بين الحركتين، النهضة والإخوان، إلى نفي فكرة امتدادها العضوي لحركة الإخوان، وأنها ليست نسخة مكررة لهذا التنظيم داخل التراب التونسي، وإنما هو تنظيم مستقل، يتمتع بالاستقلالية الفكرية والسياسية عن تنظيم الإخوان، ويقف مسافة منه، ويقيم تمايزات فكرية وسياسية كبيرة بين التنظيمين.

ولأن المكون الثقافي الغربي يعتبر فاعلا مؤثرا لا تستغني أي ثقافة عن تحديد نوع التركيب الذي تدمج به هذا المكون، فقد استعان الباحث بفرضية الانفتاح والاستيعاب والتعامل النقدي مع مخرجات الثقافة الغربية لتفسير العلاقة التي تربط حركة "النهضة" بالثقافة الغربية، أو بالمحيط الغربي. 

وقد انتهى الباحث من خلال تأكيده هذه الفرضيات الثلاث (الامتداد للحركة الاصلاحية، والااستيعاب والتجاوز للأدبيات الإخوانية، والانفتاح والاستيعاب والنقد للثقافة الغربية) إلى تأكيد الفرضية المركزية التي اشتغل عليها وهي، انتظام الحركة في الثقافة التونسية، والطابع التجديدي لرؤيتها الثقافية. 

رحلة البحث عن الهوية السياسية:

تناول الباحث في فصله الثالث مسار تطور الفكر السياسي عند حركة "النهضة"، وأهم المنعطفات التي حكمته، مركزا بشكل مركزي على مراحل تشكل الفكر السياسي لدى حركة "النهضة"، وكيف تبلورت فكرة العمل السياسي عندها، والعناوين التي كانت تأخذها في كل محطة؟ وكيف خرجت من رحم الدعوة وبلورت فكرة الحركة السياسية الجماهيرية، ثم كيف اغتنمت الفرص التاريخية والانفراجات المحدودة للبحث عن موقع داخل العملية السياسية؟
 
على أن الكاتب في هذا الجهد الرصدي والتحليلي، لم يلزم نفسه بدراسة التحولات كافة، التي عرفها الفكر السياسي لحركة "النهضة"، وإنما ركز بشكل أساسي على المسار التأسيسي للفكر السياسي، من خلال ضبط أهم التحولات التي شهدها في اللحظات التأسيسية قبل مرحلة النضج واستقرار الرؤية السياسية. وقد توقف الباحث في هذا السياق عند ثلاثة مسارات أساسية: الأول، مسار ممارسة "النهضة" السياسة بسقف دعوي، وهو المسار الذي نتج من رحم الدعوة، حيث كانت الحركة ترفع شعارات دعوية تؤطر بها فعلها السياسي، وهي المرحلة التي بدأ فيها الوعي بأهمية العمل السياسي وضرورته، إذ بدأ التفكير في تأصيله ورصد مقاصده وأهدافه وآثاره على الدعوة، وتحديد موقعه في نظرية التغيير وأساليبه. 

وقد أرخ الباحث لهذه المرحلة مع اللحظة التأسيسية، والمخاض الفكري الذي عرفته قيادة الحركة، وبشكل خاص زعيمها الشيخ راشد الغنوشي، بالإضافة إلى محطة الجماعة الإسلامية، وبداية مخاض ما قبل الانتقال إلى حركة الاتجاه الإسلامي، ثم مسار ممارسة السياسة بسقف جماهيري تغييري، وهي المرحلة التي تبلورت فيها فكرة الحركة الجماهيرية السياسية، إذ بدأ اهتمام الحركة في هذا المسار بالأبعاد السياسية والحقوقية في المجال العام، ومحاولة إيجاد صيغة لتبرير أولوية الحرية على ما عداها من المقاصد، بما في ذلك مقصد الدعوة نفسه، والتركيز على توسيع دائرة الضغط على النظام السياسي عبر مد أوعية النشاط المجتمعي ذي الطبيعة الاحتجاجية (حركة نقابية، حركة نسائية، حركة طلابية....).

وأرخ الباحث لهذا المسار بفترة المواجهة الأولى بين الحركة ونظام بورقيبة إلى ما قبل الانفراج السياسي، وأخيرا، مسار ممارسة السياسة بسقف اندماجي في العملية السياسية، وهو المسار الذي حاولت فيه حركة "النهضة" إبداء نوع من المرونة والاعتدال في المواقف الفكرية والسياسية، سواء في العقد الأخير من نهاية مرحلة بورقيبة التي حصل فيها قدر من الانفراج السياسي، والتي مهدت لتحول الحركة الإسلامية التونسية من الاتجاه الإسلامي إلى حركة "النهضة"، أو بعد الانقلاب على بورقيبة وتولي زين العابدين بن علي للحكم، التي امتدت ما بين سنة 1987 إلى غاية حرب الخليج 1991.

السقف الدعوي

وقد نبه الباحث في تعقبه للمسارات الثلاث، إلى أن معالجة تبلور الفكر السياسي لحركة "النهضة" لا يعني بالضرورة الانتقال الصارم المنضبط، من الدعوة إلى الحركة الجماهيرية الضاغطة، ثم إلى الاندماج السياسي، فالاستقصاء والاستقراء لتبلور توجهات هذه الحركة، يفيد بأن الاعتدال الذي غالبا ما يقرن في أدبيات علم السياسية ونظرياتها التفسيرية بسياق الإدماج أو التهيؤ له، سجل حضوره لدى حركة "النهضة" حتى في محطات المواجهة وانسداد النسق السياسي، كما أن العمل السياسي تحت السقف الدعوي، وتحديدا بعناوين عقائدية، ظل يحكم كثيرا من مفردات حركة "النهضة" حتى في اكتمال رؤيتها السياسية.

كما نبه الباحث أيضا إلى ضرورة استحضار مختلف الأبعاد التفاعلية في تفسير تحولات "النهضة" ضمن هذه المسارات الثلاث، ويرى في هذا السياق أن محاولة حصر تفسير هذه التحولات في المخاض الداخلي الذي عرفته حركة "النهضة" بمعزل عن التفاعلات التي فرضها السياق السياسي المحلي والإقليمي والدولي، لا يعين على فهم ديناميات تبلور الفكر السياسي عند حركة "النهضة". 

سحر الثورة 

قدم الباحث في الفصل الرابع مساهمة نوعية في تفسير أثر الثورة على فكر "النهضة" وتحول سلوكها السياسي، فقد حاول فيه أن يستعرض موقف "النهضة" من الثورة التونسية، ومكونات رؤيتها السياسية لتدبير مرحلة الانتقال الديمقراطي، متوقفا على التوتر الذي نشأ بين الرؤية السياسية المعيارية للحركة، ورؤيتها العملية المتحركة بدوافع من تغير الواقع السياسي وتعقد دينامياته، كما حاول أن يستعرض مجمل مواقف الحركة من الوثيقة الدستورية، وكيف دبرت الخلاف حول القضايا الهوياتية والحقوقية، وكذا ترتيب أجندات الانتقال الديمقراطي، مقدما خيطا رفيعا في نسج تناقضات الموقف وتحولاته السريعة.

اشتغل الباحث على تغيرات مواقف وسلوك "النهضة"، بين دخول الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والخروج منها، والبقاء على حبل التفاوض من أجل الرجوع إليها، إذا توفرت شروط ذلك، وبين الدخول للهيئة المستقلة للانتخابات والخروج منها، واشتراط تحديد موعد نهائي للانتخابات من أجل الرجوع إليها، وبين رفض تأجيل موعد الانتخابات إلى 16 تشرين أول (أكتوبر) الذي اقترحته اللجنة المستقلة للانتخابات وقبول موعد 23 تشرين أول (أكتوبر) الذي اقترحه الوزير الأول، وهو موعد لاحق عن التأجيل الذي صدر عن الهيئة المستقلة للانتخابات، مستعينا بمقاربة بنائية نسقية لتفسير هذه التحولات، يركز على الديناميات والمقاصد والخلفيات التي كانت تحرك المواقف، واللغة التفاوضية التي كانت تشكلها. 

فحسب الكاتب، كانت "النهضة" تتصلب كلما بدا لها أن الديناميات تسير في اتجاه مخالف للترتيبات التي سبق التوافق حولها، وكانت ترجع وترجح التوافق والمصلحة الوطنية اعتبارا للتوافق والمصلحة الوطنية كلما ظهرت لها تطمينات تؤكد عدم الانزياح والانحراف عن  مسار ترتيب الانتقال الديمقراطي المتفق حوله.

داخل مُربَّع الحكم

وضمن السياق نفسه، تتبع الباحث بمقاربة تفسيرية دقيقة سلوك "النهضة" داخل مربع الحكم، وتوقف عند  تجربة الترويكا متتبعا جملة المواقف والديناميات التي انخرطت فيها، والصعوبات والتحديات التي واجهتها، منتهيا في الأخير إلى أن التمثلات السياسية التي كانت تحملها "النهضة" في فترة الانتقال الديمقراطي، التي تأسست على أربع مقومات (القوة الانتخابية، الشراكة والتوافق، الإمساك بمراكز ثقل الدولة لضمان إنجاح عملية الانتقال الديمقراطي وتأمين عدم العودة للتجربة السابقة، البرنامج الحكومي الواعد) تظهر إلى أي مدى كان هدف إنجاح الانتقال الديمقراطي وتحقيق أهداف الثورة مركزيا في خطابها وسلوكها السياسي.

غير أن التتبع لمراحل تدبيرها للحكم، والأزمات التي تعرضت لها بإسقاط حكومة الجبالي، ثم حكومة العريض، مرورا بالانخراط في الحوار الوطني، والتوافق لإنقاذ تجربة الانتقال الديمقراطي، جعل الباحث يخلص إلى مفارقة في السلوك السياسي لحركة "النهضة"، فقد قدمت تنازلات مرة أخذت منحنين متفاوتين: ففي حكومة علي العريض، تم التنازل عن وزارات السيادة، التي كانت تمثل بالنسبة "للنهضة" المرتكز الأساسي في تحقيق الانتقال الديمقراطي، وهو (الإمساك بمراكز الثقل في الدولة)، لكنها في الحوار الوطني (الذي تم خلال فترة حكومة علي العريض)، تنازلت كلية عن المشاركة في الحكم، وتنازلت بذلك عن جزء مهم من مستلزمات القوة الانتخابية التي كانت تتصور أنها ضامن أساسي لتحقيق الانتقال الديمقراطي وحماية أهداف الثورة، لكنها، في المرحلتين معا ـ يلاحظ الباحث ـ أنها حرصت أن تحافظ على بعض الثوابت في تفاوضها السياسي، ومنها على وجه الخصوص، تأمين استمرار المجلس الوطني ليقوم بدوره في إعداد الدستور والمصادقة عليه، واستمرار حكومة علي العريض إلى غاية إقرار الدستور، وتكليف شخصية وطنية محايدة تحظى بتأييد "النهضة" لرئاسة حكومة الكفاءات الوطنية التي ستوكل لها مهمة استكمال خارطة الطريق لتحقيق الانتقال الديمقراطي. 

ثنائية التنازل والمقاومة

وسجل الباحث تميز السلوك السياسي لحركة "النهضة" بثنائية التنازل لإنجاح الانتقال الديمقراطي والمقاومة لمنع الثورة المضادة، مفسرا ذلك، بأربعة عوامل مهمة (العنف السياسي الذي أودى بزعمين سياسيين، والملف السلفي، والتقاطب الإسلامي العلماني الحاد، ثم المتغيرات الإقليمية التي كانت تكثف الطلب على إزاحة الإسلاميين من الحكم) تكاثفت، واضطرت حركة "النهضة" إلى أن تعيد رسم استراتجيتها ومسارها لتحقيق الانتقال الديمقراطي بعيدا عن رؤيتها المعيارية التي صاغتها قبل الانخراط في الديناميات السياسية.