كتاب عربي 21

جريمة القنصلية.. عقلنة أفعال الذباب

1300x600
لا أقصد بعقلنة الجريمة؛ خطاب هؤلاء الذين دافعوا عنها أوّل الأمر، وانحطّوا للهجوم على الضحية وخطيبته، باعتبار أن هذا الانحياز للمجرم عمل وطني؛ وباعتبار آخر وهو أنه لا حدّ فاصلا بين الحاكم الآمر والوطن، ثم باعتبار أن الحاكم مطلق الحكمة، وهو محقّ أوّل الأمر في ما أمر به، وحكيم في الكيفية التي نفّذ بها..

صحيح أن هذا الخطاب اتخذ شكلا آخر من "الوطنجية والارتزاق"، بعد اعتراف الحاكم بالجريمة وتنصّله من مسؤوليته الذاتية عنها، وتحميلها لـ"أكباش فداء"، ليتحوّل الخطاب إلى تبجيل لعدل الحاكم وشجاعته، بيد أنّ هذا لا يزيد الأمر إلا تأكيدا على الانحطاط المحيط بالحاكم، انحطاط حقيق بالتسمية التي أُطلقت على جهازه الدعائي الالكتروني، أي "الذباب الالكتروني"، وهو جهاز يضمّ إلى المعرفات الوهمية، شخصيات حقيقية، معروفة في عوالم السياسية والثقافة والصحافة والمشيخة الدينية والمجالات العامّة، ومؤَكّدة بالشارة الزرقاء في موقع "تويتر". هذا الانحطاط المكشوف يعيننا على دحض العقلنة المرجوّة من طرف آخر.

عقلنة الجريمة، تعني البحث عن أسباب معقولة ويمكن فهمها، حتى لو كانت مرفوضة، تدعو حاكما مطلق الحكم، وقد استتب له الأمر، لملاحقة صحفي على نحو مكشوف؛ أُطبق على وصفه بـ"أغبى عملية أمنية في التاريخ".. يسعى هؤلاء والذين كثير منهم، يدينون الجريمة وفاعلها، للبحث عن سبب يجعل "خاشقجي خطيرا" كي يلاحقه ذلك الحاكم ويقتله، ثم هم يرفضون في الوقت نفسه أن يكون الغباء المكشوف في التنفيذ غير مقصود، فيذهبون بعيدا للبحث عن أسباب مقصودة دعت الحاكم لتنفيذ هذه العملية بهذا الشكل الذي بدا غبيّا!

في الشق الأول من عقلنة الجريمة، قيلت أشياء كثيرة عن خاشقجي، وبصرف النظر عن دقة ومصداقية بعضه، فإنّ كل ذلك الذي قيل لا يجعل من هذه الجريمة "معقولة"، مهما كانت المعلومات التي يُزعم أن خاشقجي يمتلكها، ومهما كانت شهرته الإعلامية، أو تحوّلاته في الشهور الأخيرة نحو معارضة أكثر وضوحا، أو ارتباطاته بأجنحة أخرى في العائلة الحاكمة. فهذه الأسباب بعضها من جهة يكاد يدين الضحية، ومن جهة أخرى لا تقوى على منح المعقولية لمطاردة صحفي هذا أقصى ما يمكن أن يشكّله من خطورة؛ على حاكم يزعم جهازه الدعائي أن دولته قد صارت بفضله "عظمى"، لا سيما حين النظر إلى الكيفية التي نُفّذت بها الجريمة.

غباء هذه الكيفية بات معروفا للجميع، وهو ما يدعو الكثيرين لعدم التصديق بأنّه غير مقصود، ثم البحث عن أسباب معقولة، كالقول إنّ الحاكم أراد تبليغ رسالة مرعبة لكل المعارضين، لكن على فرض أن هذا يتوفر على القدر الكافي من المعقولية، فإنّه يصحّ لو أنّ الحاكم لم يسعَ لإخفاء الجثة وتغطية معالم الجريمة؛ ليبدو أمر خاشقجي اختفاء صرفا، فإنْ تأكّد أنّهم قطّعوا جثّته بعد ضربه وإهانته، وأنّ مسؤولا رفيعا يوصف بأنّه زعيم "الذباب الالكتروني" قد شتمه وهدّده (في اتصال من برنامج سكايب) ثم أمر بقطع رأسه، فإننا إزاء حالة مرَضيّة مركّبة من الغطرسة والساديّة والطيش والرعونة وانعدام الكفاءة!

يعيدنا هذا إلى مطلع هذه المقالة التي ذكرنا فيه الفريق الذي أحاط الحاكم نفسه به، وهو ذلك الفريق الذي ارتضى لنفسه بكل إخلاص أن ينحطّ إلى درجة "الذباب" في مضمون خطابه وفي كيفية التعبير عنه، فلماذا نتوقع عملية أمنية أرفع في مضمونها وفي كيفية تنفيذها؟!

لقد أبدى الكثيرون (في مطلع هذا العهد) استغرباهم من إقصاء الحاكم الجديد لكفاءات معروفة في مجالات متعدّدة، وإحلاله مكانها شخصيات غاية في الرداءة الأخلاقية والمهنية، وهو ما لم يكن يحتاج لاكتشافه إلى أكثر من قراءة بعض تغريداتها، ثم النظر في أدائها الوظيفي، وقد كشفت عن أداء مريع غير مسبوق في الأزمة مع قطر، سواء في شقّه الأخلاقي الذي تجاوز الأعراف الخليجية المعهودة، أو في شقّه المهني الذي أبرز خطابا ساذجا ومهينا للعقل لم يكن معروفا أبدا في سياسات السعودية الإعلامية.

وإذا كان ذلك "الذباب" لا "يقدح" من رأسه كما قال زعيمه، فإننا بالضرورة أمام حالة مروّعة من الحكم، تستدعي "وطنية" حقيقية بالسعي لكفّ يد كهذه عن بلد بثقل المملكة العربية السعودية وقدراتها، لكن للأسف، فإنّ مفهوم الوطنية مشوش وبالغ التشوّه إلى أقصى حدّ، لانعدام الثقافة السياسية التي تفصل بين الوطن والحاكم!

فإذا كانت الحظوة "للذباب" الذي فرض منطقه وأساليب تفكيره وعمله، فلن تكون هذه العملية الأمنية استثناء، وإذا قلنا إن الجريمة والسادية غير غريبة عن تاريخ الأنظمة العربية، فإنّ الإضافة هنا في مستوى الساديّة الزائد، وفي انعدام الكفاءة في تنفيذ الجريمة والتغطية عليها وتوظيفها سياسيّا.