مقالات مختارة

البرامج الحكومية والإنشاء السياسي!

1300x600

منذ وزارة السيد نوري المالكي الأولى عام 2006، استقر تقليد تواطأت عليه الطبقة السياسية جميعها إلى اليوم، يقوم على احتكار رئيس مجلس الوزراء، كتابة البرنامج الحكومي، دون مشاركة أعضاء الحكومة في صياغة هذا البرنامج كما يفترض! حيث تم تأويل النص الدستوري الذي اشترط الترتيب الآتي لتشكيل الحكومة: التكليف، تسمية أعضاء الوزارة، وأخيرا عرض رئيس مجلس الوزراء المكلف أسماء أعضاء حكومته، والبرنامج الحكومي على مجلس النواب، بأنه ترتيب عبثي لا قيمة له! لذلك انتهينا إلى انفراد رئيس مجلس الوزراء المكلف بكتابة برنامجه الحكومي كجزء شكلي من متطلبات الحصول على الثقة، ولم ينظر قط إلى هذا البرنامج بأنه خارطة طريق ملزمة للحكومة!

مع أن الدستور نفسه لم يعط أية صلاحية لرئيس مجلس الوزراء خارج إطار حكومته، باستثناء ما جاء في عبارتين مرسلتين مفادهما أن رئيس مجلس الوزراء هو «المسؤول التنفيذي المباشر عن السياسات العامة للدولة»، وأنه «القائد العام للقوات المسلحة» (المادة 78). في حين حرص الدستور على التأكيد على أن الصلاحيات منوطة بمجلس الوزراء ككل، ومن بينها «تخطيط» السياسات العامة للدولة، والخطط العامة! وهذا يفترض، منطقيا، أن تشارك الكابينة ككل في كتابة البرنامج الحكومي! كما لم ينتبه أحد إلى أن الحكومات العراقية المتعاقبة بعد 2006 كانت حكومات ائتلافية، بين أحزاب وقوى سياسية ذات طبيعة هوياتية، في سياق صراع سياسي وانقسام مجتمعي، وهذا يتطلب بالضرورة مشاركة الجميع في صياغة البرنامج الحكومي!

بل أن المحكمة الاتحادية نفسها اشتركت في هذا التواطؤ حين قررت أن استجواب رئيس مجلس الوزراء أو أحد الوزراء «يلزم أن يتضمن وقائع محددة تتضمن خرقا دستوريا أو قانونيا، وترتب على هذا الخرق ضرر فادح، ماديا أو معنويا» (القرار 35/ اتحادية/ 2012). وهذا يعني أن لا أحد يستطيع استجواب رئيس مجلس الوزراء أو أي من الوزراء في حالة عدم التزامه بالبرنامج الحكومي، وهذا يعني بالنتيجة، عدم إمكانية سحب الثقة عنهم حتى لو لم يلتزم أي منهم بحرف واحد مما جاء في برنامجه الحكومي، استنادا إلى أن الدستور العراقي نفسه يقرر عدم إمكانية سحب الثقة عن رئيس مجلس الوزراء أو أحد الوزراء إلا بعد استجوابه (المادة 61 من الدستور)!

هكذا ظلت البرامج الحكومية مجرد مدونات إنشائية لا يلتفت إليها أحد مطلقا! حيث فرضت علاقات القوة المختلة شروطها في النهاية، وانتهينا إلى احتكار رئيس مجلس الوزراء للقرار السياسي والأمني بالكامل بعيدا عن أية إمكانية للمساءلة. فلو عدنا إلى البرنامج الحكومي الذي حصل بموجبه رئيس مجلس الوزراء الأسبق نوري المالكي في العام 2006 ثقة البرلمان، لوجدنا حديثا عاما عن «الاهتمام الفائق بالقطاعين الزراعي والصناعي ووضع القوانين والقرارات وتقديم الدعم الحكومي الكفيل بإنمائها»، وعن «وضع آلية فاعلة في مراقبة الإنفاق ومعالجة الفساد الإداري والمالي». ولو عدنا إلى البرنامج الحكومي لحكومة المالكي نفسه في العام 2010 نجده يتحدث عن تطوير القطاع الصناعي، وتفعيل توجهات الدولة بالاهتمام بقطاع الزراعة بما يوفر الفرصة لتحقيق الأمن الغذائي، واستقدام شركات الخبرة العالمية في مجال الزراعة والتطوير الزراعي وفق أسس علمية، ومواصلة الجهود المبذولة في مجال الأنظمة الحديثة في الري والزراعة! وعن «وضع آلية فاعلة لمراقبة الإنفاق الحكومي ومعالجة الفساد الإداري والمالي وتفعيل المواد الدستورية الخاصة بها والتعهد بالالتزام بها ودعم مؤسسات النزاهة والشفافية وإبعادها عن الخلافات السياسية والحزبية»! وعن «اعتماد مبدأ التوازن والكفاءة في إدارة الدولة وتوزيع المسؤوليات والتوظيف في الدوائر الحكومية والجيش والشرطة وأجهزة الأمن والسفارات بما يحقق العدالة»!

وتضمن البرنامج الحكومي للدكتور حيدر العبادي في العام 2014 حديثا موسعا عن التصدي لمظاهر الفساد ومكافحته؛ من خلال تبني استراتيجية جديدة، وتفعيل دور المفتشين العموميين، وترسيخ مبدأ الشفافية والقياس الموضوعي للأداء وتقويمه، والعمل على معالجة حاضنات الفساد ومتلازماتها. وحديثا عن تحقيق التوازن بين مكونات الشعب العراقي في الوظائف العامة، وفي القوات المسلحة والأجهزة الأمنية وفي المادة 9/ أولا من الدستور، وذلك من خلال تشكيل لجنة وزارية تبدأ عملها فور تشكيل الحكومة لتحقيق التوازن الوطني بسقف زمني محدد ب 6 أشهر، ومن خلال تشريع قانوني الهيئة العامة لضمان التوازن وفق المادة 105 من الدستور، وتشكيل مجلس الخدمة الاتحادي وفق المادة 107 من الدستور!

أما فيما يتعلق بالخلافات السياسية، فقد وجدنا في برنامج العام 2006 حديثا عن التزام الحكومة بتنفيذ المادة 140 من الدستور المتعلقة كركوك والمناطق المتنازع عليها، وتشكيل لجنة حكومية مهمتها متابعة قضايا المعتقلين، وإطلاق سراح الأبرياء منهم فورا، وتفعيل القضاء عبر إحالة المتهمين إلى المحاكم، وإطلاق سراح المواطنين الذين لم يتم اعتقالهم بأمر قضائي فورا! كما وجدنا في برنامج العام 2014 الحديث نفسه عن إيجاد الحلول المناسبة لمشكلة كركوك وسائر المناطق المتنازع عليها في إطار المادة 140 من الدستور! وحديثا عن تعديل قانون مكافحة الإرهاب، وحسم قضايا المعتقلين الذين أمضوا مدة طويلة في الحجز دون وجود أدلة تدينهم! وكما هو واضح للجميع فقد بقيت البرامج الحكومية تدور في حلقة مفرغة على مدى 12 عاما من دون تحقيق أي تقدم في مسار بناء الدولة، أو تحقيق أي اختراق في أي من الإشكاليات الجوهرية التي تشكل ما نسميه بالأزمة العراقية.

وإذا كانت البرامج السياسية في التجارب السابقة، قد تضمنت بعض الإشارات إلى القضايا الخلافية الجوهرية والحساسة والمزمنة، وإن كانت إشارات إنشائية في مجملها ولم تكن هناك أية إرادة سياسية لإنفاذها، فان البرنامج الحكومي للسيد عادل عبد المهدي الذي حصل بموجبه على الثقة في حكومته يوم أمس، والذي جاء مفرطا في عموميته، وإنشائيته، قد خلا تماما من أي إشارة إلى هذه المسائل، والسبب يرجع إلى أن هذا البرنامج كتب بعيدا عن الكتل السياسية المشكلة للحكومة! بسبب الإشكاليات التي رافقت عملية التكليف، والتي أفضت إلى احتكار تحالفي سائرون والفتح مسألتي التكليف وإدارة المفاوضات، حيث تم تجاهل الأوراق التفاوضية التي طرحتها القوى الأساسية الممثلة للسنة والكرد من البرنامج الحكومي، فضلا عن تعمد إهمال القضايا الحساسة والخلافية التي كانت محور البرامج الحكومية السابقة!

عن صحيفة القدس العربي