قضايا وآراء

"درع الشمال" الكاشف

1300x600
عملية "درع الشمال" التي باشر بها جيش الاحتلال الإسرائيلي صباح الثلاثاء على الجانب الفلسطيني من الحدود مع لبنان؛ تكاد تكون كاشفة فاضحة للمشهد في إسرائيل لبنان، وحتى المشهد الإقليمي برمته، مع هوس غطرسة القوة لدى إسرائيل، وسعيها المستمر للهروب أو لفت الانتباه عن احتلالها فلسطين، بينما تحولت المقاومة في لبنان ومنذ زمن طويل إلى حشد شعبي موجه أقرب إلى الجيش المدجج بالسلاح الذي كسر التوازنات السياسية الطائفية في البلد، وعمل كرأس حربة لإيران لإمبراطورية الوهم والدم الفارسية، وسياساتها المدمرة بالدول العربية.

لم تخترع إسرائيل قصة الأنفاق، وإنما ضخمتها وحاولت استغلالها لتحقيق مكاسب معنوية شخصية سياسية أو عسكرية لرئيس الوزراء نتنياهو ورئيس أركانه إيزنكوت. فثمة نفق فعلاً للحشد الشعبي اللبناني تجاوز الحدود الفلسطينية اللبنانية، بما يمثل انتهاكاً للقرار 1701، والتفاهمات والحوارات الثنائية الإسرائيلية اللبنانية التي تتم دائماً برعاية من الأمم المتحدة وقواتها العاملة في لبنان (يونيفيل). وواضح أن إسرائيل راقبت مشروع أنفاق الحشد منذ أربعة أعوام، وانتظرت الوقت المناسب لمصلحتها لفتحه، من أجل تحقيق مكاسب لنتنياهو عبر لفت الانتباه عن توصية الشرطة بمحاكمته، أو حتى عن النقاش الحزبي الداخلي بُعيد استقالة وزير الدفاع السابق ليبرمان (كان شريكا في وضع الخطة) كما لرغبة أو طموح رئيس الأركان في إنهاء مهامه بإنجاز عسكري بارز، ولكن تمثل الهدف أساساً في لفت الانتباه عما يجري في الجنوب (غزة وفلسطين بشكل عام)، ليبقى التركيز على الجبهة الشمالية التي باتت تضم لبنان وسوريا معاً، إثر هيمنة إيران الكاملة في لبنان والجزئية في سوريا، مع تحول الاحتلال الروسي إلى اللاعب المركزي فيها.
واضح أن إسرائيل راقبت مشروع أنفاق الحشد منذ أربعة أعوام، وانتظرت الوقت المناسب لمصلحتها لفتحه

في هذا السياق، تتحدث تل أبيب منذ فترة عن ضغط روسي على طهران لتتوقف عن تموضعها الاستراتيجي في سوريا، لمنع نزاع أو صراع إسرائلي إيراني ينسف ما تتخيل موسكو أنه إنجازها الأكبر، والمتمثل في إعادة تعويم نظام الأسد وتحسين فرص بقائه، ولذلك تحولت طهران لنقل الأسلحة مباشرة إلى لبنان، كما عمدت إلى إقامة مصانع لتصنيع الصواريخ الدقيقة فيه، بعيداً عن سوريا ومأزقها.

عبر العملية الأخيرة، سعت إسرائيل إلى وضع الملف اللبناني على جدول الأعمال الإقليمي والدولي، ووجهت رسائل لإيران (وذراعها)، أولاً عبر فرنسا ثم عبر الولايات المتحدة التي التقى نتنياهو وزير خارجيتها مايك بومبيو، ونال منه دعما سياسيا مسبقا لأي عمل عسكرى محتمل.. الرسالة التي قد تكون الأخيرة لإيران؛ تطالبها بالتوقف عن إقامة مصانع أو نقل أسلحة إلى لبنان خارج إرادة موافقة الحكومة اللبنانية، وبما يرتد سلباً على لبنان نفسه واستقراره ومصالحه.

في الجانب اللبناني، أنهى حزب الله دوره وجهده المقاوم في صيف 2000، مع الانسحاب الإسرائيلي الأحادي، وهو كان قد واصل ما بدأته المقاومة الفلسطينية ثم اللبنانية (الجبهة الوطنية) التي تم العمل على إضعافها وإنهاء دورها؛ لإبقاء المقاومة في سياق سياسة طائفي أحادي وعمل الحزب كمقاومة شعبية تقليدية، ضمن سقف محدد بوتيرة منخفضة للحفاظ على السلم الأهلي، ولاقى الدعم من بيئته الحاضنة في الجنوب في لبنان، وحتى العالم العربي بشكل عام.
الرسالة التي قد تكون الأخيرة لإيران؛ تطالبها بالتوقف عن إقامة مصانع أو نقل أسلحة إلى لبنان خارج إرادة موافقة الحكومة اللبنانية

بعد إنجاز المهمة عمد أصحاب القرار في طهران (مع عدم ممانعة من بشار الأسد الذي لم يمتلك جينات والده وقدراته السياسية واكتفى بجيناته الإجرامية الدموية فقط) إلى تحويل الحزب لجيش بكل معنى الكلمة، وجرى كسر كل التفاهمات والتوازنات السياسية المحلية، بما فيها اتفاق الطائف الذي (على علاته نجح) في إنهاء الحرب الأهلية بعد. وكان الهدف ليس فقط السيطرة على لبنان، إنما التحول إلى ذراع إقليمي لطهران في مواجهة خصومها، وتحقيق مكاسب سياسية واستراتيجية لها، قبل أن يصل الهوس والتطرف إلى حد التفكير في إقامة إمبراطورية فارسية (كما قال علي يونسي، مستشار الرئيس حسن روحاني) عاصمتها بغداد، يتموضع ذراعها المركزي (العسكري والإعلامي) في بيروت، وليس في عاصمة الرشيد.

بعد التحول إلى جيش، نسي الحشد المقاومة نفسها، هو تذرع بمزارع شبعا فقط، رغم أنها سورية حسب المواثيق الدولية، ولم تحقق المقاومة أصلا أي شيء ملموس فيها بعد عقدين من الزمن، ولم تنجح حتى في وضع الملف على جدول الأعمال المحلي الإقليمي والدولي، ولا يمكن أصلاً إنجاز تحرير شبعا بالقوة المسلحة وبشكل تقليدي من قبل لبنان الصغير والضعيف والحشد الخاضع للأوامر الخارجية.
لم تحقق المقاومة أصلا أي شيء ملموس فيها بعد عقدين من الزمن، ولم تنجح حتى في وضع الملف على جدول الأعمال المحلي الإقليمي والدولي،

قصة فلسطين تم استخدامها دوماً للتغطية على الأهداف الحقيقية الطائفية للحشد الشعبي، هو لم يحرك ساكناً خلال ثلاث حروب تعرضت لها غزة والأخيرة، منها استمرت شهرين تقريباً وبشكل تاريخي واستراتيجي واسع، لا يمكن أصلاً تحرير فلسطين من لبنان مقسم ومدمر، ومهمة تحرير فلسطين من التتار للصليبيين (للصهاينة باذن الله) كانت تاريخياً مهمة بالحواضر الكبرى (دمشق، حلب، الموصل، بغداد).. الحواضر التي دمرها الحشد الشعبي، وساعد على احتلالها، كما حصل في استجدائه ومشغليه في طهران لروسيا من أجل احتلال سوريا فقط من الحفاظ على نظام بقايا نظام بشار الأسد.

بعد ما فعله من جرائم والتحوّل علناً وبشكل صريح إلى ذراع طائفي، وجد الحشد الشعبي نفسه معزولاً في نزاعه الأخير، بعدما فقد تأييد الشارع العربي الإسلامي الممتد من ماليزيا إلى طنجة، والذي يفهم جيداً بوعيه الجمعي أن جوهر ما جرى ويجري (سواء تطور الأمر إلى حرب أو لا) يتعلق بالهيمنة على لبنان، كما السعى لتحقيق مكاسب لإيران في سياستها الإقليمية العربية المدمرة.
وجد الحشد الشعبي نفسه معزولاً في نزاعه الأخير، بعدما فقد تأييد الشارع العربي الإسلامي

طبعاً، تجمع التقديرات الإسرائيلية على أن الحشد ليس بوارد الذهاب إلى التصعيد أو الدخول في حرب مع إسرائيل، كون هدفه يتمثل بالهيمنة الداخلية، والدفاع عن نظام بقايا نظام بشار الأسد، وطبعاً خدمة مشغليه في طهران لتكريس سيطرتهم الإقليمية أو مقايضة أمريكا لرفع العقوبات القاسية عنها، مقابل التخفيف من تواجدهم واحتلالهم لبعض الدول العربية.

لا علاقة البتة لفلسطين في المشهد كله، فالمقاومة اللبنانية انتهت منذ 18 عاماً، والتدخلات الكارثية غير المبررة للحشد اللبناني في سوريا والعراق واليمن، بما فيها التطهير الديمغرافي والتغيير السكاني الطائفي في سوريا، لا علاقة لفلسطين بها. ويتم استحضار العنوان الفلسطيني فقط، وحتى الصراع المحدود مع إسرائيل، لتحقيق مكاسب مذهبية مرتبطة بالرغبة الإيرانية في الهيمنة، وسعي إسرائيل لاستثمار الأمر للفت الانتباه عن احتلالها لفلسطين، وتحقيق مكاسب تطبيعية مع بعض الدول العربية. وببساطة، من دمر الموصل وحلب وساعد الغزاة على احتلال بغداد ودمشق، لا يمكن أن يكون عاملاً مساعداً في تحرير فلسطين بأي حال من الأحوال.