كتاب عربي 21

أنا فهمتكم.. قالها ماكرون

1300x600

في حديثه الجانبي مع ولي العهد السعودي بقمة مجموعة العشرين بالأرجنتين، "وبخ" الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون محدثه على عدم سماعه النصائح التي قدمها له ربما بعد حادثة احتجاز رئيس الوزراء اللبناني الذي انتهى به المطاف محرَّرا على مائدة ماكرون بالإيليزيه. كان ماكرون يومها معتدا بنفسه مستأسدا بالشعب وهو الرئيس المنتخب ديمقراطيا، ضدا على كل الطبقة السياسية والحزبية الفرنسية.

الحقيقة أن ماكرون كان يومها صاكًّاً أذنيه عن سماع صرخات الشعب الفرنسي وشعاراته التي نادته بالالتفات إلى ما تعانيه الطبقات الفقيرة والمتوسطة من "حرمان". يحدث هذا في دولة الرفاه والرعاية الإجتماعية وفي دولة المؤسسات، والنتيجة أن انتقلت مطالبات "السترات الصفراء" من إلغاء الضريبة على المحروقات، التي أقرتها الحكومة التزاما بسياستها في تحقيق التحول إلى الإقتصاد الأخضر، إلى المطالبة بتغيير النظام واستقالة ماكرون. 

 

إقرأ أيضا: ماكرون ينتقد ابن سلمان بقضية خاشقجي ويسلمه "رسالة حادة"

لقد أحيانا الله حتى قرأنا على جدران بنايات باريسية عبارة "الشعب يريد إسقاط النظام"، مكتوبة باللغة العربية الفصحى، وهو ما ذكر كثيرين بما سمي ذات زمان ربيعا عربيا. أوجه الشبه والاختلاف بين الحراكين تدعو لكثير من التأمل والتحليل.

باب السياسة
 
كان انسداد أفق الممارسة السياسية السليمة سببا أساسيا في إمساك الشارع بزمام المبادرة بالمطالبة بحقوقه في غياب ممثلين حقيقيين منبثقين من صناديق اقتراع شفافة أساسها تنافس برامج حقيقية تؤسس للتغيير. 

في فرنسا، شكل صعود ايمانويل ماكرون لسدة الرئاسة اغتيالا للسياسة وللحزبية بالبلاد. فعندما تفشل الأحزاب يمينا ويسارا ومتشددين من تقديم مرشح قادر على منافسة فرد مدعوم بمراكز القوى الإعلامية والمالية تنتفي الحاجة إليها، ومعها النقابات المهنية، وهي الممثل الأساس للوساطة بين السلطة التنفيذية والمواطن. 

 

لقد أحيانا الله حتى قرأنا على جدران بنايات باريسية عبارة "الشعب يريد إسقاط النظام"، مكتوبة باللغة العربية الفصحى،


يخلق غياب الأحزاب والنقابات فجوة كبيرة في البناء الديمقراطي السليم، ويفتح في الآن ذاته الباب لتشكيل كيانات هجينة تجتمع في أغلبية مساندة للرئيس تسمي نفسها حزبا، وهي مجرد مجموعات بلا رؤية أيديولوجية أو مشروع مجتمعي واضح غير مساندة الرئيس والتسبيح لسياساته. قتل مؤسسات الوساطة السياسية والمجتمعية يشكل دعوة مفتوحة للمواطن للنزول إلى الشارع وسيلة وحيدة للإحتجاج.

وفي وجود وسائل التواصل الإجتماعي، صار حشد الجماهير الحقيقية والإفتراضية أمرا في المتناول لتصبح الدولة في مواجهة كيانات افتراضية متعاظمة التأثير على الأرض، عبر التظاهر أو العنف الثوري، وفي مجال إعلامي حديث غير قابل للرقابة التقليدية مع ما يسمح به من تدخلات أجنبية ظهر نجاحها في كثير من المحطات. وفي غياب المحاوِر يصبح التخبط في القرارات سمة غالبة على الفعل الحكومي الذي ينتقل من تنازل إلى آخر دون قدرة على الإستجابة لمطالب لا يجمعها ناظم حقيقي.

تأخر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الرد على المطالب الحقيقية التي جعلت غالبية الشعب الفرنسي مساندة للسترات الصفراء، تاركا المجال لبعض الحلول الترقيعية للحكومة التي لم تصمد ساعات أمام ضغط الشارع. الواضح أن الأنظمة الديمقراطية نفسها تعتمد سياسة التسويف على أمل أن يكون لعامل الوقت تأثيره على عزيمة المتظاهرين. لكن التجربة هناك وقبلها في بلدان الإستبداد أثبتت أن المطالب لا تخبو جذوتها بل إنها تتجذر في شعاراتها وترفع من سقفها. يومها، لا تجد أنظمة الحكم من دفاع إلا الأجهزة الأمنية المستعدة، أينما وجدت، لقمع المحتجين دفاعا عن الأشخاص أو ما تعتبره مؤسسات للدولة والمجتمع.

باب التدخل الأمني

في بدء احتجاجات "السترات الصفراء"، كانت التقديرات الأمنية تنحو على ما يبدو للتقليل من أهمية الفعل الاحتجاجي. لكن ضعف الاستجابة السياسية بل صبها للزيت على النار بإثارة المتظاهرين تجاهلا للمطالب أو إطلاقا لتوصيفات "مهينة"، لم يجد ماكرون غير الإعتذار عنها في خطابه الثاني خلال الأزمة، حول العاصمة الفرنسية باريس لقلعة أمنية حقيقية كل سبت مصادف لتجمعات الغاضبين. 

 

إقرأ أيضا: هكذا علق ماكرون على احتجاجات "السترات الصفراء" بباريس

آلاف رجال الشرطة من كل الأصناف صارت ترابض على مداخل المدينة وأزقتها المؤدية للشانزيليزيه وبقية المعالم السياحية والسيادية. حرب الشوارع في الغالب حرب رابحة للمحتجين ومعركة خاسرة لقوات الأمن إن على مستوى القدرة على الضبط أو على مستوى التأثير الإعلامي السلبي لتدخلاتها. 

ففي مجتمع فرنسي خبر الديمقراطية والحق في التظاهر والإحتجاج يصبح استخدام خراطيم المياه تجاوزا أمنيا، واعتقال المتظاهرين، بما فيهم مثيرو الشغب والحرائق والسرقات، اعتداء على الحريات ولو تم إخلاء سبيلهم بعد ساعات. صورة بلد الحريات ومدينة الأنوار هي التي تكون في المحك، وبين تأطير الاحتجاجات وحمايتها وبين ردع المخالفين للقانون خيط رفيع أرفع من تحفظه القوانين المحلية أو المواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي طالما استخدمتها باريس وبقية الأنظمة الغربية في مواجهة المستبدين لأسباب صادقة أو سياسوية على حد سواء. 

المؤكد أن القانون ورفعته تبقيان الضامن الأساس لردع كل انتهاك أو إفراط في استخدام السلطة وأجهزتها. لم نسمع عن مختفين قسريا ولا عن معتقلين من بيوتهم أو تعذيب في المراكز الأمنية بالرغم من الصور الصادمة للكيفية التي ووجه بها تلاميذ مدارس تم صفهم كمعتقلي حرب في انتظار الإعدامات. كما لم يتم تخوين المتظاهرين أو اتهامهم بالولاء للأجنبي.

باب التدخل الأجنبي وفزاعة انهيار الإقتصاد،

صار لزاما أن يخرج علينا رموز الدولة الاستبدادية أينما كانوا في الجغرافيا العربية باتهام المخالفين لهم في الرأي بالولاء والتمويل الأجنبي. في فرنسا، لم يخرج علينا "المواطنون الشرفاء" بما يفيد توزيع وجبات الكانتاكي على المحتجين أو رؤية هيلاري كلينتون أو الرئيس دونالد ترامب موزعا الأموال على المتظاهرين بالرغم من شماتته الموثقة على تويتر مما آلت إليه الأوضاع.

قدم وزير الإقتصاد رؤيته السوداوية للوضع الإقتصادي في ظل الأزمة التي تعيشها البلاد وحذر من كارثة اقتصادية بسبب الشلل الذي أصاب قطاعات مهمة قطع عنها المحتجون الطرقات والمنافذ. الأزمة ضربت أيضا التجار وأصحاب المؤسسات السياحية في المناطق المستهدفة بالاحتجاجات. الصراع الطبقي واضح في تداعيات وأسباب الأزمة وهو ما أشار له الرئيس ماكرون وغيره من الساسة من ضرورة الحفاظ على اللحمة الوطنية. التفاوتات الطبقية بين الأفراد والمناطق جعلت من سكان باريس رمزا للغنى والأطراف رموزا للحرمان. صحيح أن هذا التحليل سطحي للغاية لكنه يحظى بصدى واضح لدى الكثيرين بالشكل الذي يبدو من تصريحات الغاضبين. 

 

المؤكد أن القانون ورفعته تبقيان الضامن الأساس لردع كل انتهاك أو إفراط في استخدام السلطة وأجهزتها.


بالرغم من ذلك، لا يزال المتضررون يكتفون بالسعي لحماية ممتلكاتهم، ولا زال كثيرون يصرون على دعم "المتضررين" بالحضور إلى مؤسساتهم التجارية لاقتناء الحاجيات أو شرب كأس قهوة أو تناول عشاء. لم نسمع بعد صوتا لعفاف شعيب تشتكي عدم قدرتها على توفير بيتزا لأطفال عائلتها بسبب قطع الطرقات وتظاهرات المحتجين مباشرة على الهواء في التلفزيون الرسمي.

باب الاعلام،

منذ انطلاق حملة الإعداد لحراك "السترات الصفراء"، كان الإعلام العمومي الفرنسي واجهة لعرض مختلف الآراء والإخبار بالمستجدات. ليس الأمر غريبا، فالإعلام العمومي له مفهوم مختلف تماما في البلدان الديمقراطية إذ يعلم المشتغلون فيه أن وجودهم على الشاشة ورواتبهم مستمدة من الرضا الشعبي ومن أموال دافعي الضرائب لا رضا السلطان والأجهزة المخابراتية وإحسان الحكومات. لأجل ذلك كانت التغطية الإعلامية في مجملها رصينة تأخذ بعين الاعتبار الحق في الإخبار وهاجس التنديد بالشغب والتحذير من التجاوزات. وبالرغم من أن كثيرا منها كان ضحية اعتداءات المنتسبين لبعض التظيمات اليمينية واليسارية الفوضوية فقد ظلت محافحظة على تأدية الخدمة العمومية المطلوبة منها في القانون والدستور. 

لم تسلط الكاميرا أضواءها على جمال نهر السين على خلفية موسيقى هادئة، ولم يحتج المواطن الفرنسي لهجر قنوات بلاده والبحث في الفضائيات "المعادية" للحصول على المعلومة الصحيحة والصورة الأصدق لما يعتمل في العاصمة والأطراف. وعندما ضرب الإرهاب مدينة ستراسبورغ، لم يربط أحد من المحللين بين استنزاف القوات الأمنية في تأمين الإنفلات وحصول الثغرة التي ولج منها "المتربصون" بالبلاد في أجواء فرحة أعياد الميلاد.

باب الإرهاب

في خطابه إلى الفرنسيين، أعلن ماكرون عن مجموعة من الإجراءات في إطار ما أسماه "حالة طوارئ اقتصادية واجتماعية". حالة الطوارئ كلمة لها وقع السحر في آذان الفرنسيين، حيث تآلفوا معها منذ سنوات ولو على حساب بعض "الحريات" المكتسبة بالدم والنار. استخدامه من طرف الرئيس الفرنسي لم يكن اعتباطيا لدرجة ظهور "مشككين" في أن إطلاق النار الذي أودى بحياة ثلاثة فرنسيين على الأقل في سوق عيد الميلاد بعاصمة الاتحاد الأوروبي، مؤامرة حكومية للفت الإنتباه وتخويف الفرنسيين. في بلدان الإستبداد، فكر المؤامرة عقيدة اعتنقها الجميع. لكنها في بلدان المؤسسات ذريعة لا يمكنها التأثير في المواطن مهما بلغت درجة الشكوك. التظاهرات ستستمر والتعامل الحكومي معها سيتباين حزما واستجابة أكبر للمطالب والضغوط.

 

إقرأ أيضا: ماكرون يعلن حالة طوارئ اقتصادية واجتماعية بالبلاد
 
وبالرغم من أن ماكرون نطقها مجبرا أن "أنا فهمتكم..." فلا مجال لخروج من يصرخ في شارع الشانزليه ليلا والناس مختبئين في بيوتهم "ماكرون هرب... ماكرون هرب..." أو شيخا يقول بصوت مبحوح "هرمنا.. هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية.." لأن الديمقراطية حاضنة للجميع ودرع ووسيلة تكاتف عليها الشعب وسيلة وحيدة لتغيير النظام.

في 1968، انتصر دوغول على الثورة قبل أن يسقط ديمقراطيا في استفتاء عرضه على الفرنسيين وهو أهم بكثير من ماكرون، فاستخلص الدروس، وهو محرر فرنسا من النازية، وقدم استقالته وغادر في هدوء.