كتاب عربي 21

هل من مخرج للحكومة السودانية؟

1300x600

لا- تسقط بس

دخلت انتفاضة الشارع السوداني ضد الحكومة أسبوعها السادس، وسقط رهان الحكومة بأنها "شدة وتزول"، وبأن الزعم بأن أطرافا موصومة بالعمالة والخيانة والارتزاق سيجعل المواطنين يؤثرون البعد عن الشبهات، وينفضون عن المواكب المطالبة برحيل الحكومة.

بدأت الانتفاضة بوسم "#مدن السودان تنتفض"، وعندما انتفضت القرى التي لا وجود لها على أي أطلس، صار الهتاف "تسقط بس"، بمعنى أن كل ما نريده هو أن تسقط الحكومة، أي أن الأمر لم يعد يتعلق بخبز أو صحة أو تعليم.

 

اقرأ أيضا: هكذا علق النشطاء على مظاهرات "مواكب التنحي" في السودان

وخلال الأسبوعين الماضيين كف دهاقنة الحكم عن وصم معارضيهم، الذين اضطروا إلى اللجوء لديمقراطية الشارع، التي هي أكثر ألوان الاستفتاء واستطلاعات الرأي دقة بالمخربين، ربما لأن المظاهرات متلفزة على الهواء عبر آلاف الهواتف الجوالة، ولم ير من يتابعها ويرصدها شاهدا على لجوء المتظاهرين للعنف أو التخريب.

وربما لأن الحكومة تدرك أنه لو قالت للجماهير: هاؤم اقرأوا كتابيه، ومن ثمّ، تم فتح ملف التخريب، فإن ذلك سيفتح صندوق بندورا الخاص بها، ويعيد إلى الذاكرة كيف مارست الحكومة التخريب والتدمير المنهجي للمشاريع الإنتاجية، والمرافق الخدمية، والاقتصاد، والسياسة، والذمم.

 

اقرأ أيضا: بعد الدوحة.. البشير يزور الكويت وسط استمرار الاحتجاجات

لم تعثر الحكومة على أي دليل بأن الآلاف الذين يهدرون في الشوارع كالسيول منذ منتصف كانون الأول (ديسمبر) الماضي، مخربون أو عملاء للصهيونية، فلجأت إلى موال وصايتها على الإسلام، ورفعت نغمة أن الشيوعيين هم المحركون للتظاهرات، بحسبان أن الشيوعيين كفار، والسودانيون ينفرون من الكفر، وبالتالي سيلتفون حول الحكومة التي لديها خط ساخن مع السماء (في ندوة في قناة الجزيرة قبل سقوط حكم بن علي بسنوات قليلة، قال الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة الإسلامية التونسية: ما من جهة أضرت بمسيرة الحركة الإسلامية كما حكومة الخرطوم ـ خذ في الاعتبار أن تلك الحكومة منحت الغنوشي جواز سفر، عندما أتاها طالبا الأمان الذي افتقده في وطنه، ولا تستطيع أن تقول إنه "ناكر للجميل"، فكل ما هناك هو أن الرجل متصالح مع ضميره، ولا يبيعه بجواز سفر).

إبداع سوداني

ثم جاءت الحكومة بالدليل الذي زعمت أنه قاطع، فإذا هو كذب ساطع في فجاجته؛ قالوا إنهم يرصدون المظاهرات بالأقمار الصناعية.

أرجو أن تُركِّز معي جيدا: المظاهرات في السودان، تتم بدعوات علنية منشورة ومذاعة عبر الوسائط الرقمية، وتنطلق من عدة مناطق في المدينة الواحدة، وعدة مدن متزامنة، ولجهاز المخابرات منظومة أقمار يحركها بنظام البلاي ستيشن إلى مختلف المواقع لرصد تلك المظاهرات.

لماذا كل هذا التبذير وقوات الأمن والملثمون على صهوات مركبات بلا لوحات أرقام، يسبقون المتظاهرين إلى مواقع انطلاق المظاهرات وعلى طول مساراتها المعلومة، ويقومون بالواجب ضربا بالهراوات والرصاص وسحلا بالسيارات رباعية الدفع؟

لا يقف الإبداع الحكومي السوداني عند هذا الحد، فقبل أسبوع سقط الطبيب أبوبكر عبد الحميد سلامة شهيدا خلال مظاهرة ضخمة في ضاحية بري شرق الخرطوم، برصاصة في الظهر، وتبارى كبار المسؤولين الحكوميين في الخرطوم للتملص من تبعة قتله، وقالوا في إجماع رائع إن الأقمار الصناعية رصدت فتاة من بين المتظاهرين تخرج سلاحا ناريا من حقيبتها اليدوية، وتطلق النار عليه من مسافة أربعة إلى تسعة أمتار.

 

إقرأ أيضا: لجنة أطباء سودانية: مقتل طبيب وطفل برصاص الأمن (صور)

القمر الصناعي لم يكشف فقط فعلة تلك الفتاة المجرمة، بل كشف أيضا أنها شيوعية؛ ولا شك في أن وكالة ناسا لعلوم وأبحاث الفضاء الأمريكية، ستستجدي التوأمة مع جهاز المخابرات السوداني للحصول على التنقية التي تحلل الحمض النووي للانتماءات السياسية.

وقالوا إن تلك الفتاة استخدمت بندقية صيد لارتكاب جريمتها، وطول مثل تلك البندقية متر وبعض متر، وأن تتمكن فتاة من إخفائها في حقيبة اليد واستخدامها، ثم طيها وإعادتها إلى حيث كانت، إبداع سوداني سيؤدي إلى طفرة في مجالات الحروب والأعمال الاستخباراتية، (وكان آلاف المتظاهرين حول الفتاة صما عميا خرسا، ومن ثم لم يرصدوا جريمتها ورصدها قمر صناعي يحلق على ارتفاع ملايين الأمتار).

 

قبل أسبوع سقط الطبيب أبوبكر عبد الحميد سلامة شهيدا خلال مظاهرة ضخمة في ضاحية بري شرق الخرطوم، برصاصة في الظهر

وحار السودانيون في أمر اهتمام حكومة بلادهم بأمر الشهيد أبوبكر دون غيره من الشهداء (بلغ عددهم 51 حتى فجر يوم الجمعة 26 كانون الثاني/ يناير الجاري)، ولكن واحدا من ذوي الألسنة الخفيفة من المسؤولين الحكوميين، وما أكثرهم، قال: جده كان قطبا في الحركة الإسلامية فكيف نقتل واحدا منا وفينا (القمر الصناعي السوداني يستطيع أيضا أن يعرف الأصول العائلية genealogy للمتظاهرين وليس فقط انتماءاتهم السياسية).

وإنصافا للحكومة فلا بد من الإشادة بتفهمها لمطالب المحتجين، قبل أن يسبق السيف العذل، كما فعل زين العابدين بن علي في الوقت بدل الضائع من مباراته مع الشعب التونسي، عندما هتف "فهمتكم"، فقد أعلن مدير جهاز الأمن الوطني والمخابرات عن فتح عدة منافذ ترفيهية على امتداد شارع النيل في الخرطوم مع السماح للشباب بالتشييش والتدخين العلني، مع كفالة حرية السهر والصرمحة هناك (لم يقل ما إذا كان استخدام الشيشة جريمة في خارج الخرطوم أم لا)، وهكذا فهمت الحكومة السودانية سر الغضبة الشعبية عليها، وستعمل على امتصاصها عبر خراطيم الشيشة.

ولكن ورغم تلك البشريات والتحذيرات القمرية المدارية المبطنة والمعلنة، فقد خرجت الجماهير السودانية في مختلف الأصقاع يوم الخميس الماضي (24 كانون الثاني/ يناير) في مظاهرات غير مسبوقة في تاريخ البلاد، ولم يكن الهتاف يومها "تسقط بس" بل بأنها "سقطت"، ولكن لابد من المزيد من المسيرات لتشييعها إلى مثواها الأخير.

 

إقرأ أيضا: المعارضة السودانية تدعو للاعتصام في 23 ميدانا بالخرطوم