كتاب عربي 21

من دروس "الربيع العربي" (1)

1300x600

لعل موجة الثورات والتغيرات في المنطقة العربية أو ما عرف بـ"الربيع العربي"، التي مضى عليها نحو ثماني سنوات، تعدُّ أحد أبرز وأنبل الظواهر في التاريخ الحديث والمعاصر. وبغض النظر عما تعرضت له من هجمات وتشويه وتزوير وموجات مضادة، فقد تميزت بحجم مشاركة شعبي هائل، وبمشاركة واسعة من الشباب، والفئات الشعبية غير المُسيَّسة، وتميزت عند انطلاقتها بالسلمية (بشكل عام)، وكانت الأنظمة السياسية هي المسؤولة أساسا عن عسكرتها؛ كما تجاوزت الأمور المطلبية إلى القضايا السياسية الكبرى، وحققت نتائج باهرة في وقت قياسي، فأسقطت أنظمة سياسية، ورفعت سقف الحريات والمشاركة السياسية في العام العربي. كما تمكن الإنسان العربي من كسر حاجز الخوف، ومن التعبير عن مطالبه بشكل حضاري، وكشف الوجه القبيح للأنظمة التي تستعين بالقوة العسكرية والأمنية، وبالقوى الخارجية للمحافظة على بقائها. واستخدمت وسائل إعلامية حديثة فعالة، بما في ذلك الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي كفيسبوك وتويتر وغيرها.

وبالرغم من أن هذه الثورات عانت من الموجات المضادة، ومن دخول القوى الخارجية على الخط لدعم منظومات التسلط والفساد و"الدولة العميقة"، حتى لو أدى ذلك إلى سفك الدماء ونشر الفوضى، وتدمير النسيج الاجتماعي، وتدمير البنى التحتية والاقتصادية؛ إلا أن هذه الموجة الثورية أعطت بارقة أمل لتغيير حضاري حقيقي قادم، يفرض نفسه من خلال موجة جديدة، تستلهم دروس هذه التجربة وغيرها، وتتجاوز العثرات التي وقعت بها.

نتوقف هنا على عدد من الدروس، من خلال قراءتنا وتحليلنا لتجربة هذه الثورات أو ما عرف بـ"الربيع العربي":

أولا: أنصاف الثورات هزائم كاملة: في بعض البلدان كما في مصر وتونس، كان الزخم الثوري قويا وجارفا، بحيث يستطيع أن يفرض شروطه، لو استمر حتى نهايته، غير أن المسارعة إلى عمل تسويات تكتفي بقطف بعض الثمار، فوَّت على الثورة ثمرات أخرى مهمة؛ كالتخلص من هيمنة الجيش وقوى الأمن، وفرض منظومة للعدالة الانتقالية تحل مكان منظومة القضاء الفاسدة فيما يتعلق بقضايا الثورة، والإمساك بمفاصل القوة والقرار في البلد، كالجيش والأمن والاقتصاد والإعلام.

 

المسارعة إلى عمل تسويات تكتفي بقطف بعض الثمار، فوَّت على الثورة ثمرات أخرى مهمة كالتخلص من هيمنة الجيش وقوى الأمن، وفرض منظومة للعدالة الانتقالية

كل هذه النواقص والثغرات مكنت قوى "الدولة العميقة" من البقاء في مواقعها، ومن تعطيل وإفشال الثورات، التي كانت تفتقر إلى الخبرة وإلى القوة "الخشنة" والصلبة. وهكذا، تؤدي أنصاف الثورات إلى هزائم كاملة.

ثانيا: الارتباك في الانتقال من ريادة المجتمع إلى قيادة الدولة: بدا واضحا أن قوى التغيير والثورة لم تكن جاهزة لترجمة نجاحاتها في العمل الجماهيري والاجتماعي، والتعبير عن تطلعات الناس، إلى نجاحات في إدارة الصراع السياسي وقيادة الدولة. ولم تكن ثمة رؤى واضحة للعبور بالمجتمع والمنظومة السياسية، من حالة التخلف والتبعية والضعف إلى حالة نهضوية شاملة، تتجاوز عقبات سياسية واقتصادية ومجتمعية معقدة.

كانت هناك إشكالات أيضا في البنى القيادية للثورة، وفي تحديد المسارات الأساسية، والبرامج الفعالة خصوصا لتجاوز المرحلة الأولى باتجاه استقرار النظام السياسي الجديد. وبِقدْر ما برع الإسلاميون في النشاط الاجتماعي والعمل الدعوي والتربوي، وكتابة أدبيات ضخمة في ذلك، بِقدْر ما نجد شُحّا وضعفا في الأدبيات المتعلقة بالتغيير والانتقال من المجتمع إلى الدولة، وفي أدبيات إنزال المشروع النهضوي على تكوين النظام السياسي وإدارة الدولة، والاستفادة من إمكاناتها، ومسارات النهوض الاقتصادي، وبناء العلاقات الخارجية، وغيرها.

 

بِقدْر ما برع الإسلاميون في النشاط الاجتماعي والعمل الدعوي والتربوي، وكتابة أدبيات ضخمة في ذلك، بِقدْر ما نجد شُحّا وضعفا في الأدبيات المتعلقة بالتغيير والانتقال من المجتمع إلى الدولة، وفي أدبيات إنزال المشروع النهضوي على تكوين النظام السياسي وإدارة الدولة

ثالثا: إشكالية "الدولة العميقة": لم تكن قوى الثورة والتغيير تدرك الحجم الحقيقي لما يُعرف بـ"الدولة العميقة" وقدرتها على التأثير وصناعة الأحداث؛ إذ راهنت قوى التغيير على حجمها الشعبي الواسع وحماسة الجماهير للتغيير، بينما ملك أنصار النظام المتهاوي قوى "صلبة" وشبكات مصالح، وعلاقات خارجية، وكانوا أكثر وزنا في الجيش والأمن والاقتصاد والإعلام والقضاء، مما مكنهم من استخدام هذه الأدوات بفعالية، وإن كانوا أقل شعبية أو حتى مبغوضين من الجماهير بعد انتصار الثورة. وعليه، تمكنوا من تشويه الثورة، وتعطيل مساراتها، وإفراغها من محتواها، ثم الانقضاض عليها. وعندما اقتضى الأمر بالنسبة لهم، قاموا بنشر الفوضى وسفك الدماء والاستعانة بالقوى الخارجية، واللعب على الوتر الديني والطائفي والعرقي لضرب النسيج الاجتماعي، مقابل الإبقاء على نفوذهم ومصالحهم.

وأيما ثورة تريد أن تقوم وتنجح، عليها أن توفر الآليات الكاملة والبدائل للتعامل مع قوى "الدولة العميقة" بشكل منهجي وحاسم. وربما يفيد تصنيف هؤلاء المشمولين بالمصطلح، ما بين فاسدين وظالمين تجب معاقبتهم أو استبعادهم، وما بين أصحاب مصالح يخشون عليها، يجب استيعاب من يمكن استيعابه، وطمأنة من يمكن طمأنته، وتحييد من يمكن تحييده.

 

أيما ثورة تريد أن تقوم وتنجح، عليها أن توفر الآليات الكاملة والبدائل للتعامل مع قوى "الدولة العميقة" بشكل منهجي وحاسم

رابعا: التأثير الإقليمي والدولي: أثبتت تجربة "الربيع العربي" مدى التأثير الكبير للبيئة الإقليمية والدولية على الثورات وحركات التغيير؛ بل إنها أصبحت لاعبا رئيسيا، أو حتى اللاعب الرئيسي في صناعة الأحداث في عدد من الدول التي شهدت الثورات، وهو ما انعكس بشكل هائل على مسارات هذه الثورات ومنجزاتها ومخرجاتها.

الكيان الصهيوني الذي شعر بمخاطر وجودية على مستقبله، خصوصا إذا ما تحولت البيئة الإقليمية إلى بيئة نهضوية معادية، سارع إلى استنفار قواه ونفوذه العالمي لمواجهة الثورات، ولكن من وراء ستار، حتى لا يستفز بشكل أكبر قوى الثورة، وحتى لا يحرج القوى التي يدعم بقاءها أو عودتها.

الولايات المتحدة وحلفاؤها سارعوا للتدخل من وراء حجاب، أو على المكشوف إذا استدعى الأمر، للتحكم بمسار الأحداث وتوفير الإسناد السياسي والمالي والأمني والإعلامي وحتى العسكري لحلفائهم؛ مع وضع المصلحة الإسرائيلية على رأس أولوياتهم، وكذلك إفشال قوى "الإسلام السياسي" والقوى الداعمة لخط مقاومة المشروع الصهيوني. كما أدت الولايات المتحدة دورا أساسيا في قطع الطريق على القوى الثورية، التي حدثت فيها صراعات عسكرية على التزود بالسلاح النوعي ومنعها من حسم المعارك لصالحها، وأدت دورا أساسيا في إطالة أمد الصراع بين الأطراف المتنازعة، وأسهمت من خلال دعم أطراف معينة على حرف بوصلة الثورات العربية، من خلال تأجيج الصراع الطائفي والعرقي. والدور الروسي الرئيسي معروف في سوريا، بالإضافة إلى محاولته أن يكون لاعبا في عدد من الساحات الأخرى.

 

وجدت قوى التغيير والثورة التي عبرت في البداية عن تطلعات شعوبها، أن وزنها السياسي والفعلي يتضاءل، وأنها لم تعد اللاعب الرئيسي ولا حتى لاعبا رئيسيا في بلدانها

أما القوى الإقليمية بما فيها دول الخليج وإيران وتركيا، ذهب كل منها إلى التدخل بما يخدم أجندته وتقاطعات مصالحه، ودخلت لاعبا رئيسيا في مسار الأحداث وفي دعم الأنظمة أو إسقاطها.

وهكذا، وجدت قوى التغيير والثورة التي عبرت في البداية عن تطلعات شعوبها، أن وزنها السياسي والفعلي يتضاءل، وأنها لم تعد اللاعب الرئيسي ولا حتى لاعبا رئيسيا في بلدانها؛ بعد أن حلَّت مكانها القوى الإقليمية والدولية، التي سعت لفرض إراداتها من خلال "وكلاء" محليين بغض النظر عن وزنهم السياسي وشعبيتهم الحقيقية. والنماذج على ذلك بالعشرات إن لم تكن بالمئات، في مصر وسوريا وليبيا واليمن وتونس.

خامسا: العدالة الانتقالية: كان على أي ثورة تريد النجاح، أن تنشئ عدالة انتقالية تتولى التعامل من منظور عادل وثوري وفعّال مع إرث المرحلة السابقة، بحيث يتم اقتلاع عناصر الفساد السياسي والعسكري والأمني والاقتصادي والإعلامي في البلد، ويتم قطع الطريق عليها عن أي فرصة للعودة إلى تشكيل منظومات فسادها، والانقلاب على النظام الغضِّ الجديد. كان من الخطأ أن يوكل أمر الإجراءات القانونية إلى المنظومة القضائية للنظام البائد، وأن يوكل أمر مطاردة الفاسدين إلى المنظومة الأمنية السابقة، ولا أمر حماية النظام الجديد إلى رؤوس العسكر المتحالفين مع النظام السابق. ومثلا، فقد دفعت الثورة في مصر ثمنا غاليا لعدم إنشاء منظومة للعدالة الانتقالية، فقامت المحاكم بإفراغ القضايا ضدّ رموز النظام السابق من محتواها وبتبرئتهم، وقامت المحكمة الدستورية بتعطيل مسار الدولة الجديدة، وبإعطاء الغطاء للقوى الانقلابية.

(يتبع)