قضايا وآراء

حزب "تحيا تونس" أو اللحظة الأخيرة في أكبر عملية "تحيّل" سياسي

1300x600

بنجاحه في عزل السيد الحبيب الصيد من رئاسة الوزراء واستبداله بالسيد يوسف الشاهد عبر توافقات برلمانية صورية، لم يكن رئيس الجمهورية يعلم أنه بهذا الخيار سيعيد تشكيل الساحة السياسية التونسية بصورة لم يتوقعها حتى هو نفسه. لم يكن السيد يوسف الشاهد "رجل دولة" بالمعنى المتداول حتى بين النخب التي ورثت المنظومة التجمعية، ولم يكن له من الخصال القيادية أو من النضج السياسي ما يبرر اختياره مهما كان معيار الفرز، ولكنه كان يمتلك ورقة رابحة وهي ورقة ترجَح كل الاعتراضات التي يمكن أن يواجه بها: إنه "بلدي" من الدائرة العائلية الموسّعة لرئيس الدولة (أي صاحب وجاهة اجتماعية ورأسمال رمزي مطمئن للوبيات الداخل ومراكز القرار في الخارج)، وهو "شاب نموذجي" عند جماعة "النمط المجتمعي التونسي" من جهة انتمائه إلى النواة الجهوية الصلبة لمنظومة الحكم منذ الاستقلال الشكلي عن فرنسا، ومن جهة استحالة ربطه بحركة النهضة في تلك المرحلة.

بهذا المعنى، مثّل السيد يوسف الشاهد انتصارا جديدا لاستراتيجيات إعادة التموقع والانتشار التي اتبعها ورثة المنظومة القديمة (بعد نجاحهم في السيطرة على رئاستي الجمهورية والبرلمان). ولكنّ رئيس الوزراء الذي جاء إلى منصبه بمنطق "الوزير الأول" الخاضع لسلطة رئيس الجمهورية، كسر أفق انتظار هذا الأخير وعمل على بناء مشروعه السياسي الشخصي؛ الذي وجد نفسه بالضرورة في موضع تعارض مع المشروع "الشخصي" لمن اقترحه لخلافة السيد الحبيب الصيد، ولكنه مشروع "شخصي" لا يخرج عن خدمة منظومة الحكم ذاتها، بل لا يخرج عن "المزايدة" في تحقيق أهدافها التي لا علاقة لها (فيما يبدو من حصيلة هذه الحكومة) باستحقاقات الثورة ولا حتى بالسقف الإصلاحي. وليس يعنينا في هذا المقال تتبع المسارات التي أدّت إلى ولادة المشروع الحزبي الجديد لرئيس الحكومة (حزب "تحيا تونس")، بل إن منتهى ما يعنينا هو دلالة هذا الحدث وانعكاساته على الحقل السياسي التونسي؛ قُبيل الانتخابات الرئاسية والتشريعية المزمع إجراؤها في أواخر هذا العام.

 

أغلب التحليلات تذهب إلى أن بقاء السيد الشاهد رهين بموقف حركة النهضة، وهو فهم نراه سطحيا ويحتاج إلى مراجعة

بالمنطق السياسي البراغماتي، يمكننا أن نتحدث عن السيد يوسف الشاهد باعتباره سياسيا ناجحا. فقد استطاع أن يدير رأسماله الرمزي الأولي (أي الانتماء إلى النواة الجهوية الصلبة للحكم، بالإضافة إلى "مقبولية" دولية تجد جذورها في عمله داخل السفارة الأمريكية بتونس)، كما نجح في مراكمة ذلك الرأسمال الرمزي بطريقة جعلته يصمد في مواجهة رئيس الجمهورية وابنه وحلفائهما في الداخل والخارج. فرغم تمترس رئيس الدولة وراء حلفاء أقوياء (اتحاد الشغل، الجبهة الشعبية، اتحاد الأعراف، العديد من منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية)، فإنه قد عجز عن الإطاحة بحكومة الشاهد أو بتغيير مسار الفشل المدوي لابنه في قيادة حركة نداء تونس. وعلينا هنا أن ننبّه إلى نقطة مهمة تتعلق بـ"الحزام السياسي" لرئيس الحكومة، خاصة حركة النهضة. فأغلب التحليلات تذهب إلى أن بقاء السيد الشاهد رهين بموقف حركة النهضة، وهو فهم نراه سطحيا ويحتاج إلى مراجعة؛ على الأقل لسببين: أما السبب الأول فهو ما أظهرته التحويرات الوزارية من أنّ الحزام السياسي لرئيس الحكومة يتجاوز بكثير حركة النهضة، وأما السبب الثاني فهو أن حركة النهضة لم تكن لتواجه الرئيس وحلفاءه الذين أسقطوا الترويكا إلا لوجود "انشقاقات" عميقة داخل منظومة الحكم ذاتها، أي وجود اختلافات جذرية داخل مراكز النفوذ في تحديد الشخص الأقدر على ضمان مصالحها المادية والرمزية بعد الانتخابات القادمة.

لقد استطاع السيد يوسف الشاهد أن يفرض نفسه لا بحكم أدائه أو شعبيته، بل بحكم قدرته هو وفريقه على استثمار التناقضات الداخلية والإملاءات الخارجية. ففي دولة ذات سيادة ولا يستمد حكّامها شرعيتهم من دعم الرأسمال المشبوه ومن الخضوع لإملاءات صناديق النهب الدولية، كان من المفروض على رئيس الحكومة أن يُقدم استقالته لا أن يؤسس حزبا. ولكننا في دولة تابعة، ولا يمكن لنخبها الحاكمة مهما كانت ادعاءاتهم ومزايداتهم وأيديولوجياتهم أن يتحركوا إلا في مربّع تحدده مراكز القرار الدولي. فلو نظرنا إلى حصيلة الحكومة التي يشرف عليها السيد الشاهد ما بين سنتي 2016 و2018، لوقفنا على أنّ "شرعية الأداء" هي آخر ما يمكن أن يؤسس لطموحاته السياسية: ارتفاع المديونية: من 55,9 مليار دينار إلى 76,1 مليار دينار، وارتفاع العجز في الميزان التجاري من 6,4 الى 8,2، وارتفاع نسبة التضخم من 3,7 إلى 7,5 ، وانخفاض مخزون العملة الصعبة من 111 يوما إلى 76 يوما.

 

في دولة ذات سيادة ولا يستمد حكّامها شرعيتهم من دعم الرأسمال المشبوه ومن الخضوع لإملاءات صناديق النهب الدولية، كان من المفروض على رئيس الحكومة أن يُقدم استقالته لا أن يؤسس حزبا

ولعل السؤال المنطقي الذي سيُطرح أمام هذه الأرقام هو التالي: كيف يمكن لشخصٍ هذا أداؤه أن يُسوّق لنفسه باعتباره "رجل المستقبل"؟ بل كيف لشخص لديه من عقم الخيال السياسي ما جعله "يستولي" على شعار جامع للتونسيين ويتخذه اسما لحزبه أن يُشغّل خياله في اجتراح الحلول لمشاكل الناس؟ إننا أمام "مفارقة" كبرى، ولكنها سليلة مفارقات سابقة أشد منها وأنكى. فالتونسيون الذين صدّقوا أن الباجي "ديمقراطي" وأنه ليس مجرد واجهة للمنظومة القديمة، وأنه لا يحمل مشروعا توريثيا لابنه، والتونسيون الذين صدّقوا أن من يدافعون عن الانقلابيين في كل الأنظمة ويمجدون المخلوع ونظامه، يمكن أن يكونوا ضمانة للديمقراطية، هم أنفسهم التونسيون الذين سينتخبون السيد يوسف الشاهد وسيصدّقون وعوده الأيديولوجية (عدم التحالف مع النهضة رغم أنه مدين لها إلى حد كبير ببقائه رئيسا للحكومة) ووعوده الاقتصادية (تحقيق ما عجز عنه طيلة رئاسته للحكومة).

 

كل ما يفعله السيد يوسف الشاهد ماهو إلا استنساخ للاستراتيجية التي اعتمدها السيد قائد السبسي خلال حملته الانتخابية وبعد وصوله إلى سدّة الرئاسة

رغم العداء المستحكم بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، فإن السيد يوسف الشاهد هو بالمعني النيتشوي؛ التلميذ الوحيد للسيد قائد السبسي، فهو الوحيد الذي نجح في أن يتعلم منه وأن يتجاوزه. فكل ما يفعله السيد يوسف الشاهد (من تجيير موارد الدولة لمصلحة شخصية وحزبية، واحتكار الرمزيات الجامعة للتونسيين، وإعادة تدوير التجمع وجزء من جماعة "الانتخاب المفيد"، وتجميع لروافد "العائلة الحداثية" بدعوى مواجهة النهضة، واستقواء بالخارج وفرض إملاءات الجهات المانحة، وتبييض الرأسمال الفاسد وتوظيفه سياسيا، وإعادة الصراع إلى المربع الهوياتي)؛ ماهو إلا استنساخ للاستراتيجية التي اعتمدها السيد قائد السبسي خلال حملته الانتخابية وبعد وصوله إلى سدّة الرئاسة.

قديما قال الفاروق عمر بن الخطاب إن "نصف العقل معرفة ما يكون بما قد كان". ولا شك عندنا في صلاحية هذه القاعدة لفهم المسارات المتوقعة للمشهد السياسي التونسي بعد تأسيس حزب "تحيا تونس"، بزعامة رئيس الحكومة الحالية. فرغم بؤس الأداء، من المرجح أن ينجح السيد يوسف الشاهد في افتكاك القاعدة الانتخابية لنداء تونس وللعديد من الأحزاب "الوظيفية" التي كانت بمثابة حزام الأمان له. وهو ترجيح يقوم على قراءة التصريحات الأخيرة للعديد من الرموز السياسية، بدءا بما قاله السيد سمير بالطيب (ممثل حزب المسار اليساري في الحكومة) من استعداده للتفاعل إيجابيا مع فكرة الحزب الجديد، وانتهاءً بدعوة السيد محسن مرزوق (زعيم حزب مشروع تونس) مكوّنات "العائلة الديمقراطية" إلى الالتحاق بحزب "تحيا تونس".

ختاما، يبدو أن حزب" تحيا تونس" سيكون هو قاطرة المنظومة الجهوية الحاكمة (وحلفائها الأيديولوجيين) في الانتخابات القادمة، كما يبدو أن تلك المنظومة قد حسمت أمرها في الصراع الدائر بين السيدين قائد السبسي والشاهد في تمثيلها وحماية مصالحها. ومن المستبعد أن يكون للأداء الكارثي للسيد يوسف الشاهد أي تأثير في مستوى نوايا التصويت. فالتصويت سيكون محكوما بأمرين: استعادة أجواء 2014 وتضخيم الهاجس الأيديولوجي للتغطية على الخيارات اللاوطنية لمنظومة الحكم كلها، وتوظيف المال السياسي والأذرع الإعلامية (بل حتى المخاطر الإرهابية) لتوجيه الناخبين نحو خيارات معينة دون سواها. ولا شك في أن نجاح هذا السيناريو ليس حتميا، ولكنه نجاح راجح بحكم هيمنة الاصطفافات الأيديولوجية، وبحكم غياب أي بديل سياسي يكسر تلك الاصطفافات ويقنع "الأغلبية الصامتة" والزاهدة في التصويت بقلب موازين القوى الحالية.