أفكَار

مفكر مغربي: لجأت إلى المعرفة رفضا لمسار استدماج النخب

قال بأنه مفكر مخضرم جمع بين الانتماء للغة والثقافة العربية والانفتاح على باقي الثقافات (صفحة سبيلا)

أوضح المفكر والفيلسوف المغربي محمد سبيلا، أن انتماءه إلى الحركة الوطنية، واختياره اللغة العربية بدلا من الفرنسية منهجا للتكوين والتحصيل العلمي، دون إغفال اللغات الأخرى، مكنه من اجتراح نهج فكري حداثي لا يتناقض مع الهوية. 

وأشار سبيلا في حوار فكري شامل وحصري مع "عربي21"، أجراه معه الكاتب والباحث المغربي بلال التليدي، أن مفكري وفلاسفة المغرب من أمثال الراحل محمد عابد الجابري والدكتور عبد الله العروي، هم أبناء الحركة الوطنية بشكل عام، وأن إنتاجهم الفكري تلون في نهاية المطاف بأسئلة تلك المرحلة من البناء الحضاري.

وأشار سبيلا إلى أن المثقف والمفكر هو غير السياسي، وأنه انحاز إلى الفكر كغيره من مفكري جيله لتحصين مصداقيته من نفعية السياسي. 

وهذا نص الجزء الرابع والأخير من الحوار: 

س ـ إذا أردنا أن نتحدث عن النخب التحديثية في العالم العربي وفي المغرب، فهناك عدد من الذين عاصروك كانت لهم مشاريع تحديثية بمنطلقات مختلفة، فالدكتور عبد الله العروي انتهى إلى أن التحديث مرتبط بالقطيعة مع الموروث، والجابري رأى العكس، وأن التحديث يستحيل دون الانتظام في نوع من التراث وبشكل خاص التراث البرهاني الرشدي، فانتهى به الأمر إلى التأسيس لفكرة الكتلة التاريخية ولقاء التيارات الإسلامية والديمقراطية، أنت، أين تموقع مشروعك التحديثي؟

 ـ ما ينبغي أن أؤكد عليه أن كل هذه المشاريع التحديثية ـ على اختلافها ـ هي في الحقيقة انعكاسات للمشروع الوطني التحديثي الذي كانت تدعو له الحركة الوطنية. فهذه المشاريع هي تعبيرات عن روح هذا المشروع التحديثي. هذا عندي اعتقاد، فالعروي والجابري كلهم أبناء الحركة الوطنية، فالجابري كان اتحاديا قحا، وهو ابن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والعروي هو أيضا ابن الحركة الوطنية، وكان رفيقا للمهدي ابن بركة. وابن بركة هو الذي التقط الرجلين الجابري والعروي، وأتحدث في الموضوع عن معطيات تفصيلية أعلمها، وليس عن مجرد ادعاء أو تخمين. 

 

مجمد عابد الجابري كان معربا، ودرس في مدارس التعليم الحر التي بنتها الحركة الوطنية، بخلاف عبد الله العروي الذي كان يحمل تعليما فرنكفونيا


وأنا حين أقول بأن هذه المشاريع هي امتدادات للحركة الوطنية، لا أنفي الجهد الفردي والعصامي الذي بذله هؤلاء، كما لا أنفي التطور الفكري الذي حصل لكل واحد من هؤلاء، فالعروي بدأ راديكاليا، وساعدته ثقافته التاريخية، وهو المؤرخ والمؤمن بالتاريخانية، في تطوير رؤيته وتموقعه، إذ أدرك بعد مرحلة أن التطور والتقدم لا يمكن أن يكون إلا داخليا. 

 



هذا الجانب الأول من المعادلة، والمرتبط بكون إسهامات هؤلاء هي في جوهرها امتدادات للمشروع التحديثي الذي تبنته الحركة الوطنية، وهناك جانب آخر، لا يمكن أن نغفله، وله وجاهة في تفسير بعض التباينات في المشاريع، وهو ما يرتبط بالبعد اللغوي. فالدكتور مجمد عابد الجابري كان معربا، ودرس في مدارس التعليم الحر التي بنتها الحركة الوطنية، بخلاف عبد الله العروي الذي كان يحمل تعليما فرنكفونيا، مع أنه هو الآخر ابن الحركة الوطنية. فالجابري كان نتاج التعليم الوطني الحر الذي كان يمثل التطعيم والتحديث الذي أدخل على التعليم التقليدي. أما العروي فقد ارتبط منذ البدء بالتعليم الفرنكفوني. 

 

إقرأ أيضا: مفكر مغربي: الحداثة في العالم العربي بدأت مشروعا إسلاميا

أنا بين الاثنين، لأنني في الحقيقة أنتمي إلى جيل مركب. فالجامعة المغربية كانت تضم قسمين للفلسفة، القسم المعرب، والقسم الفرنسي، وكنت أنا والجابري من القسم المعرب، وكان الطاهر بنجلون وعبد اللطيف اللعبي من القسم الفرنسي. لكن انتماءنا للقسم العربي، لم يكن يعني انقطاع صلتنا باللغة الفرنسية والثقافة الفرنسية، فهذه اللغة والثقافة كانت تشكل جزءا من ضرورات الأداء الجيد في قسم الفلسفة، فلم يكن يتصور حينها أي مستقبل للطالب الجامعي في قسم الفلسفة المعرب، إن لم يكن تكن له المكنة اللغوية على الانفتاح على الثقافة الكونية، وبشكل خاص الفرنسية منها. 

فجيلنا كان، إلى جانب تمثله للثقافة العربية، التي ركزت عليها الحركة الوطنية في مشروعها التحديثي، يجتهد لاكتساب ثقافة حديثة، تمكنه من امتلاك الأداة الكفيلة بخدمة الفكرة الوطنية في شقها التحديثي. نحن في الحقيقة نمثل الروح الوطنية بالتعبير العربي، لكن مع قدر كبير من الانفتاح على الثقافة الكونية.
 
وللإشارة، فمع تسجيل هذا القدر الكبير من الانفتاح على الثقافة الغربية، فإنه لم يحدث أن انزلقت يوما إلى مواقع التنكر للتقليد أو معاداة الدين، نعم انتقدت الدعوات المتشددة والمتزمتة،  لكن دون سقوط لمواقع التنكر للتقليد. وإذا كنتم مصرين على معرفة موقعي بين الرجلين الجابري والعروي، فأنا أبدو أحيانا أقرب إلى الجابري، وأحيانا أخرى أقرب إلى العروي. لنقل إن موقعي هو مراوحة مكوكية بين الجابري والعروي.

س ـ من خلال كتاباتك، نرى ميلا كبيرا منك إلى تقريب الحداثة ومفاهيمها وتصنيف مستوياتها، فأنت تقدم مفاهيمها وبراديغمها، وتضطر للترجمة بنفسك في عملية تقريب أبعادها الفكرية والفلسفية والتقنية والتنظيمية، وكأنك تستشعر بوجود تشوهات في تمثل العالم العربي للحداثة،  كيف تفسرون هذا الموقع الذي لجأتم إليه؟

 ـ اشتغالي بالحداثة والفكرة الحداثية له دلالة على الانتقال من النضال السياسي الذي نشأنا فيه في المدرسة الاتحادية أيام مجدها، إلى النضال الفكري. لأنه مع معاشرة النضال السياسي، يكتشف المرء بعض التعثرات، وبعض الأشكال الذاتية، وربما الانتهازية والنفعية، فيلوذ الفيلسوف والمفكر، بحقله المعرفي والفكري، وذلك كموقف أخلاقي منه لصيانة مصداقيته، لأن العمل السياسي داهمته اليوم، وانتابته كثير من المثالب، وخاصة بعدما بدأ مسار استدماج النخب. 

 

اقرأ أيضا: مفكر مغربي: الربيع العربي بدأ لغزا تاريخيا وشوّش على التحديث

وهنا أنا أستعمل كلمة الاستدماج بمفهومها السوسيولوجي التي لا تحيل على أي حكم قيمة، لأنني أقوم بوظيفة توصيفية فقط، فبعد سنة 1975، وما ارتبط بهذا الحدث الوطني من رفع القضية الوطنية كسقف مؤطر للعمل السياسي، وبعد انخراط المجتمع السياسي في المسلسل الديمقراطي، طرحت فكرة استدماج النخب. 

 

نحن في الحقيقة نمثل الروح الوطنية بالتعبير العربي، لكن مع قدر كبير من الانفتاح على الثقافة الكونية.


طبعا حين نتحدث عن الديمقراطية، والمسلسل الديمقراطي، فبغض النظر عن البعد الصوري المرتبط بالواجهة، فإن الحاجة لتطوير المشروع السياسي الوطني، فرض على السلطة استعمال عدد من الآليات لاستدماج النخب محليا ووطنيا، وفي هذا السياق، ظهرت في العمل السياسي نزعات ذاتية ومصلحية. ومع تتالي هذه الظواهر، أحس بعض المثقفين بأن هذا الفضاء لا يسعهم، وأن الحفاظ على استقلاليتهم ومصداقيتهم يتطلب ثمنا، فكان هذا اللوذ بالعمل الفكري. 

 



وبالمناسبة، فالانتقال من العمل السياسي إلى العمل الفكري لا يخلو من ثمن وكلفة، فهذا الانتقال، فيه زهد واختلاء وخلوة، وتجريد من السلط، وأيضا فيه تحمل شظف العيش، فالجابري الذي عايش العمل السياسي، إنما انتقل إلى العمل الفكري بعد هزيمة 1967، وذلك بعد اقتناعه بأن التحولات العميقة التي تمس العالم العربي هي ذات طبيعة فكرية، لكنه في المقابل، اكتشف على المستوى الداخلي والحزبي، أن العمل السياسي لم يبق بنفس النقاء والطهارة، وأنه لهذا الغرض لاذ بالعمل الفكري كموقف أخلاقي لتحصين مصداقيته.....

 

س ـ دكتور سبيلا في ختام هذا الحوار ، إذا أردت أن تختصر مسار مشروعك الفكري، البدايات التي انطلقت منها، والتحولات التي اعتصرت بها، والمآلات التي انتهيت إليها، والرؤية المركزية التي تؤطر هذا المشروع، كيف تختصر هذا المسار في كلمة مختصرة؟

ـ لهيدغر قولة مفيدة يمكن أن تعين في تقريب هذا المسار، فهو يقول بأن "معظم إنتاج  المثقف أو الأديب هو فكرة واحدة يدور ويلف حولها".

أنا أنتمي إلى جيل تحديثي، اختياري منذ الطفولة كان الانتظام في اللغة العربية والثقافة العربية وتمجيدهما. فعشنا في الجامعة هذا التوجه بالانفتاح على رؤى فكرية أخرى، كان عزيز لحبابي رحمه الله هو مرشدنا في ذلك. فكرة التحديث كانت حاضرة في انشغالاتي الأولى، لكنها لم تكن واعية. كنت منبهرا بالمخترعات والتقنيات الحديثة، وكانت لي عدد من التساؤلات. 

بعد اختياري الفلسفة، وبعد احتكاكي بكتابات بيركسون وسارتر وهايدجر وغيرهم، أصبحت فكرتي الرئيسة، هي تعميق فكرة الحداثة، وتسليط الضوء على أبعادها الفكرية والفلسفية وخلفياتها الثقافية، وأحيانا حتى الميتافزيقية. 

 

أنا أنتمي إلى جيل تحديثي، اختياري منذ الطفولة كان الانتظام في اللغة العربية والثقافة العربية وتمجيدهما.


ومع الارتباط بتمجيد الحداثة باعتبارها حلا أو من الحلول الأساسية لتطور المجتمع وتحقيق الفكرة الوطنية، كنت أعتقد أنه يستحيل تحقيق الفكرة الوطنية من دون توسل أداة لفهم العالم الحديث واستيعاب مقوماته الفكرية. 

في مرحلة أولى، انشغلت بمحاولة تتبع ورصد الأبعاد الفكرية والفلسفية للحداثة، وفي المرحلة الأخيرة، بدأت أهتم بموضوع التقنية وذلك بعدما راقبت عددا من التحولات العميقة التي حدثت في السنوات الأخيرة والمتمثلة في الانتقال من صناعة الأشياء إلى صناعة الكائن الحي. ففي هذا الوقت بدأ العلم الحديث بصناعة خلايا حية ورعايتها، وبدأت عمليات الاستنساخ، وانطلقت عملية تطعيم الإنسان. فهذه تحولات ضخمة، لكن للأسف ليس هناك اهتمام بها حتى داخل المدرسة الفلسفية الفرنسية التي نحن في الغالب ما نتأثر بها. 

هناك فيلسوف واحد من بين عشرات الفلاسفة من يهتم بهذه التحولات العميقة، والتي ترتبط بثقافة خلق الحياة. فهذا هو الحقل الجديد الذي بدأت أهتم به. في المحصلة، مشروعي يسير في خط واحد، هو الحداثة ومشروعها الفكري والتجديدات التي تحصل عليه، والجوانب الفلسفية التي تحاول صناعة الكائن الحي وتطعيم الإنسان، بإدماج الجانب الآلي والتكنولوجي في الجانب البيولوجي عبر إدخال شرائح إلكترونية في دماغه للاستعانة بها لتقوية الذكاء والذاكرة، وما يتعلق بخلفياتها الفلسفية والبيوتكنولوجية.

س ـ دكتور محمد سبيلا، إذا قررت أن تكتب كتاب في السنوات المقبلة، فما الموضوع الذي تقترحه؟

 ـ إذا طال العمر، فالكتاب الذي سأشتغل عليه هو "التحولات البيوتكنولوجية الجديدة وخلفياتها الفلسفية وآفاقها المنظورة".

 

اقرأ أيضا: مفكر مغربي: لا خوف من الحداثة على العرب فللتقليد مقاومته