قضايا وآراء

محاولة لتفكيك الخطابات الناقدة للفساد في تونس

1300x600
مع كل أزمة اقتصادية أو اجتماعية أو أمنية، يكثر الحديث بين التونسيين (عامتهم وخاصتهم) عن فساد "منظومة الحكم". وبالطبع، فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان هو فساد السلطة التنفيذية أساسا، لكن مع استحضار "هلامي" لدور باقي السلطات وفسادها، أي دور السلطتين التشريعية والقضائية، ودور "الإعلام" باعتباره سلطة رابعة في تكريس هذا الفساد أو في الحد منه.

ومهما كانت المواقع التي تصدر منها الخطابات المهاجمة للفساد، ومهما كان صدق أصحابها في ادعاءاتهم الذاتية، فإن الخطابات الواصفة للفساد تتميز بعدة خصائص سنحاول ذكر أهمها:

1- التنصل من المسؤولية الشخصية أو الحزبية أو المؤسساتية، وذلك إما بنفيها أو بتتفيهها أو بتوصيفها بطريقة تخرجها من دائرة الفساد أصلا، مع محاولة التشكيك في نوايا "الآخر" وضرب مصداقيته. فالجميع يقر بوجود الفساد (بما في ذلك الحكومة)، ولكنّ الجميع أيضا يُنزّهون أنفسهم عنه ويدّعون محاربته. وهو ما يجعلنا نقتبس ذلك القول المأثور ونُعدّله ليتطابق مع واقعنا التونسي: "كلكم يدّعي الطهورية ويبكي حال البلاد، فمن أفسدها؟".

2- تسييس القضايا وأدلجتها بصورة تمنع المقاربة العقلانية القابلة للفصح والتدقيق، وبناء حكم موضوعي بعيد عن الاعتباطية والسفسطة. فغلبة المشاعر على الخطابات المتصارعة وضمور التعاطي العقلاني، يجعلان من أي حوار عمومي مجرد هدر عبثي للوقت وتعميق للهوة بين المتحاورين، وهو ما يجعل من الحوارات (سواء في المنابر التقليدية أو في مواقع التواصل الاجتماعي) أقرب ما تكون إلى "الحروب الكلامية" والشيطنة المتبادلة؛ التي لا ينتصر في نهايتها إلا "الوضع القائم" ومن يهيمنون عليه.

3- حصر الفساد في منظومة الحكم، والتعامل مع الحكومات المتعاقبة بنوع من ازدواجية المعايير. فأغلب الخطابات الواصفة للفساد لا تتحرك بمنطق مبدئي، بل هي محكومة بمتغيرات عديدة تُحدد مواضيعها ومواقيتها ومقارباتها، بل هي التي تفرض نوعية النقد وتجعله متراوحا بين النقد اللين "المتفهم"، وبين النقد الجذري الذي يقترب أحيانا من التحريض الصريح على العصيان المدني أو حتى الانقلاب.

4- غلبة المنظورات الثقافوية والسياسية الضيقة، وتهميش المحدد القيمي أو حتى المحدد الاقتصادي، وذلك بصرف النظر عن المزايدات الأيديولوجية، خاصة عند القوى اليسارية والحداثية عموما. فأغلب هذه القوى ترى أن "الفساد الأعظم" هو دخول حركة النهضة إلى الحقل السياسي، بل دخول الإسلاميين عموما شريكا في عملية إنتاج الرموز، وفي عملية إعادة توزيع السلطة والثروة. فعودة المنظومة القديمة بقيادة نداء تونس ليس فسادا "سياسيا"، بل هو دفاع عن "النمط المجتمعي التونسي"، وإعادة تدوير التجمعيين والتطبيع معهم ومع مقارباتهم الثقافية والتنموية ليس فسادا "إداريا"، بل هو استثمار في "الكفاءات"، وهيمنة أشباه الإعلاميين والمال السياسي المشبوه على صناعة الرأي العام ليس فسادا "إعلاميا"، بل هو حرية تعبير ومحاربة "للظلامية والرجعية".

5- تهميش أية مقاربة "أركيولوجية" لظاهرة الفساد وتجنب البحث في الأسباب العميقة لهذه الظاهرة. فمن يستمع إلى أغلب الخطابات الناقدة للفساد سيلاحظ محاولاتها المتكررة لإخراج فترة المخلوع ابن علي من إطار المساءلة والمحاسبة. أما فترة "الزعيم" بورقيبة، فإنها تكاد تتحول في العديد من الخطابات إلى "جنة ضائعة" أو إلى "مدينة فاضلة". وليست عودة البورقيبية إلى الواجهة باعتبارها "الخطاب الكبير" الذي تستمد كل الأحزاب شرعية وجودها بدرجة الاقتراب منه أو الابتعاد عنه؛ إلا تعبيرا عن هذا الواقع في المستوى الرمزي، أما إعادة تدوير التجمعيين واستئناف مقارباتهم التنموية والثقافية وغيرها؛ فليس إلا التعبير السياسي أو المؤسسي عن الواقع ذاته. فلا أحد تقريبا (إلا بعض الأصوات المقموعة والمهمشة) تحدث عن الجهوية والزبونية باعتبارهما حقيقة سوسيولوجية وسياسية تجد تعبيرتها "الاستعارية" في ما يُسمى بالدولة الوطنية" بلحظتيها الدستورية والتجمعية، ولا أحد تقريبا تحدث عن "الثورة المضادة" باعتبارها ثورة جهوية- زبونية تدار مجازيا بمفردات "الحداثة" و"الوطنية" و"التقدمية" وغيرها.

لو كان لكاتب هذا المقال الحق في أن يُعين "الرحم التوليدي" الذي يُحوّل أغلب المقاربات الناقدة للفساد إلى جزء من منظومة الفساد ذاتها، لقال إنه "الصراع الهوياتي". إنه ذلك الصراع الذي يجد تعبيرته الأولى في مجلة الأحوال الشخصية، وهي مجلة يستطيع أي مراقب للشأن التونسي أن يلمح هيمنتها على الاصطفافات التي تخترق الشارع التونسي ونخبه منذ العهد البورقيبي. فقد نجح "الزعيم" ومن بعده المخلوع في اختزال عملية التحديث والاستثناء التونسي (وغير ذلك من الأساطير المؤسسة "للنمط المجتمعي التونسي") في تلك المجلة، وفي ما أسمياه بتحرير المرأة. وبصرف النظر عن المواقف المختلفة من تلك المجلة، فإن النظام بلحظتيه الدستورية والتجمعية قد عمل جاهدا على اكتساب جزء من شرعيته من خلال الدفاع عنها، كما نجح ورثته في جرّ الإسلاميين والعلمانيين (بعد الثورة) إلى المُربّع الهوياتي حتى كادت القضايا الاقتصادية والاجتماعية (خاصة البنية الجهوية- الزبونية-التابعة للسلطة) ألاّ تبين في خضم الصراع حول القضايا الثقافية- الهوياتية.

ومثلما نجح بورقيبة ومن بعده المخلوع في التغطية على البنية الحقيقية للسلطة (وهي بنية- جهوية- زيونية- تابعة ومعادية لبناء مقومات السيادة الحقيقية ولدولة المواطنة التامة) بتوظيف الاستعارات الحداثية والوطنية والتقدمية وغيرها، يبدو أنّ ورثة المنظومة القديمة قد نجحوا بعد الثورة في حرف الأنظار عن "الفساد الحقيقي" في بنية السلطة، وما قامت عليه من خيارات كبرى. فرغم وجود كل السرديات الكبرى التي نازعت "البورقيبية" في مختلف مراحلها، فإن هذه السرديات قد أصبحت واقعيا جزءا من منظومة حكم "البورقيبية المعدّلة". ورغم اختلاف الشبكات المفهومية لهذه السرديات الكبرى الإسلامية والقومية واليسارية منها على حد سواء، فإنها قد وجدت أنفسها مصطفةً وراء أحد مراكز النفوذ في المنظومة القديمة، وذلك بصرف النظر عن تبرارتها. فمظلومية النهضة وما عانته في نظام المخلوع؛ أصبح تبريرا للتوافق وما ينبني عليه من سياسات ورثة المخلوع. أما القوى اليسارية فقد قدمت التناقض "الأيديولوجي" مع الرجعية الدينية على التناقض الاقتصادي مع البرجوازية اللاوطنية، رغم أنها ما زالت تهيمن على المشهد السياسي من وراء ألف قناع حزبي ونقابي وجمعياتي. وكذلك هو حال الاتحاد العام التونسي للشغل الذي أصبح همّه الأكبر هو مقاومة اختراق الإسلاميين لصفوفه (وكأنهم من غير التونسيين)، بينما لا يجد حرجا في بسط حمايته على ورثة الشُعب المهنية الذين تحولو إلى مناضلين نقابيين.

لو أردنا التسطيح أو تعويم الأسباب الحقيقية التي تحول دون بناء استراتيجية وطنية لمقاومة الفساد، لحصرنا الفساد في "الإدارة"، ولقلنا وراء علماء السياسة والاجتماع إن الفساد هو " أحد الأعراض التي ترمز إلى وقوع خطأ في إدارة الدولة"، أو لقلنا إنه " سلوك يخالف الواجبات الرسمية للمنصب العام، تطلعا إلى مكاسب خاصة مادية أو معنوية"، ولكننا أردنا في هذا المقال أن نقدم بعض العناصر التي قد تصلح مدخلا لمقاربة أعمق لظاهرة الفساد باعتبارها ظاهرة "مجتمعية" ترتبط بالأسس الفكرية والمؤسساتية التي قامت عليها الدولة الوطنية ذاتها. فالفساد الحقيقي في تقدرينا ليس مجرد "خطأ في إدارة الدولة"، بل هو خطأ يتعلق بفهم الدولة ذاتها وآليات اشتغالها، وكذلك بما يؤسسها من قيم تكون محل"إجماع" أو توافق طوعي بين مختلف الفاعلين في كل المجالات. وليس أدلّ على تغلغل الفساد في الخطابات الناقدة له؛ من هيمنة مفهوم "الدولة- الأمة" وما يرتبط به من خيارات كبرى على تلك الخطابات. وهو ما يتجلى في إصرارها "اللاوظيفي" على تقديس هذا الفضاء الجغرا-سياسي في زمن التكتلات الاقتصادية الكبرى، وفي زمن العولمة الغازية والهادمة لوهم الاستقلال، أي زمن العولمة الذي كان من المفروض على النخب أن تواجهه بالبحث عن نِصاب سياسي جديد قد يكون النّصاب المغاربي هو أفقه الأدنى لا الأقصى.