كتاب عربي 21

ابن عوف "النذير" بديلا للبشير (ثم البرهان بديلا لابن عوف)

1300x600

بدأ حكم البشير في حزيران/ يونيو من عام 1989 بأكذوبة، تمثلت في أن عراب الحركة الإسلامية التي رتبت للانقلاب، حسن الترابي، قرر أن يذهب إلى السجن حبيسا، على أن يذهب العميد عمر البشير إلى القصر رئيسا، ويوم الخميس الماضي، والثورة الشعبية المطالبة برحيل البشير وكامل نظامه، بقيادة "قوى الحرية والتغيير"، وتجمُّع المهنيين تكمل شهرها الرابع، خرج على الناس الفريق عوض بن عوف بالبيان رقم (1) معلنا تشكيل مجلس عسكري يحكم البلاد لعامين.

 

اقتلاع النظام وحل مؤسساته

وجاء في البيان رقم واحد لهذا الانقلاب، والذي تلاه ابن عوف بوصفه وزيرا للدفاع: "اقتلاع" النظام، وحل مؤسسة رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء، والبرلمان المركزي والبرلمانات الإقليمية، فنشأ عن ذلك وضع كاتش 22.

للكاتب الأمريكي الساخر جوزيف هيلر عمل روائي بديع يحمل اسم "كاتش 22"، وهي عبارة عبثية تجيء على لسان الضابط الطبيب في الجيش الأمريكي دوك دانيكا، للدلالة على الموقف الشائك الذي لا يعرف الناس منه مخرجا، بسبب خلل في القرارات والآراء والتوجيهات.

 

مجلس عسكري

وببيانه بتشكيل مجلس عسكري يحكم السودان لعامين، خلق ابن عوف وضعا معياريا لكاتش 22، فما قام به هو وكبار الجنرالات الذين اصطفاهم البشير ليمسكوا بزمام المؤسسة العسكرية، ليس انقلابا على البشير، بل على الثورة الشعبية المطالبة باستئصال نظام  البشير من "لغاليغو"، وهو ليس انقلابا قامت به القوات المسلحة كمؤسسة، فقد جاء على لسان ابن عوف أن قرار الاستيلاء على السلطة جاء من اللجنة الأمنية العليا، التي يتولى رئاستها بوصفه النائب الأول لرئيس الجمهورية.

هذه اللجنة الأمنية تضم قوات الشرطة، وتضم جهاز الأمن والمخابرات الذي ظل يمارس التقتيل والتنكيل بالمتظاهرين طوال الأشهر الأربعة الماضية، وممارسة أبشع صنوف القمع والتعذيب بحق كل من يعارض الحكومة على مدى ثلاثة عقود، وتضم أيضا قوات "الدعم السريع" وهي مليشيا تتألف من أبناء منطقة معينة من إقليم دارفور الملتهب، شكلها البشير لحمايته هو شخصيا، وتتبع لرئاسة الجمهورية، وتحول قائدها من مواطن عادي إالى "فريق" في غضون أسابيع، وهو إنجاز لم يسبقه إليه سوى بشار الأسد، الذي ترقى من طبيب عيون مدني إلى مشير خلال ساعات.

 

بيان أول ركيك

في بيانه الأول الركيك، والذي قام خلال تلاوته بإلحاق أضرار جسيمة بمعمار اللغة العربية، قال ابن عوف إنه يقرر ما يقرر بوصفه وزيرا للدفاع، وبالمصري: دي تيجي إزاي؟ فقد أعلن حل مؤسسة الرئاسة، وهو الرجل الثاني فيها، ثم حل مجلس الوزراء وبالتالي "حلّ" منصبه كوزير دفاع، فكيف ينتحل منصبا قام هو بإلغائه؟ 

 

ابن عوف أراد إعادة إنتاج حكم البشير بالإبقاء على مؤسسات البشير، بل وتعزيزها،


وأعلن ابن عوف في البيان الأول حل المجالس التشريعية في الولايات، ولكنه أبقى على حكام الولايات، وجميعهم جنرالات أسند إليهم البشير مناصبهم قبل نحو شهرين، كما أبقى على اللجان الأمنية في الولايات، وجميعها لجان يسيطر عليها حزب البشير (المؤتمر الوطني)، ولم يأت على ذكر "مصير" هذا الحزب، الذي ما زال يمسك بمفاصل الدولة، وقاد البلاد إلى الخراب الذي خرجت الملايين منذ كانون أول/ ديسمبر الماضي لوضع حد له.

وهكذا فإن أدلة ملموسة ومحسوسة، وليست ظرفية، تؤكد أن ابن عوف يريد إعادة إنتاج حكم البشير بالإبقاء على مؤسسات البشير، بل وتعزيزها، فقد كان هو، وليس البشير من هدد المتظاهرين في الثامن من نيسان (أبريل) الجاري بأنه لن يسكت على ما يسببه المتظاهرون من "انفلات أمني"، وفي بيانه الأول أراد ابن عوف استخدام سلاح العين الحمراء، وأعلن فرض حالة الطوارئ المعلنة أصلا منذ كان هو النائب الأول لرئيس الجمهورية، ثم زاد العيار بفرض حظر التجوال اعتبارا من العاشرة مساء، وهو ما لم يفعله البشير المستهدف بالتظاهرات.

ولابد أنه أحس بحرج بالغ، ونحو مليوني مواطن يتدفقون على القيادة العامة للقوات المسلحة ليتحدوا حظر التجوال في يومه الأول، ويطالبون برحيله هو بالاسم، مع بقية رموز ومؤسسات حكم البشير.

 

استلهام تجربة سوار الذهب


من المؤكد أن ابن عوف أراد استلهام تجربة المشير عبد الرحمن سوار الذهب، قائد الجيش السوداني في عهد جعفر نميري، والذي تجاوب مع انتفاضة شعبية نشدت رحيل نميري، وشكل مجلسا عسكريا أدار شؤون البلاد لسنة واحدة، ثم سلم مقاليد الأمور لحكومة منتخبة.

 

ابن عوف أعلن تعطيل الدستور ثم بعدها بسويعات وقف يؤدي القسم "الدستوري


فات على ابن عوف أنه يفتقر إلى هيبة وكاريزما سوار الذهب، وشعبيته بين جنود وضباط الجيش، فقد كان ابن عوف مبعدا من الجيش لحين طويل من الدهر، ثم التحق بجهاز الأمن والمخابرات، ثم ألحقوه بالسلك الديبلوماسي، ثم أعادوه للجيش في مرحلة رأى فيها البشير أنه بحاجة إلى جنرالات بلا طموح وشديدو الولاء له، وبالتالي فكوادر الجيش السوداني التي تشغل الرتب غير السياسية لا تكاد تعرفه.

وتبلغ ملهاة كاتش 22 ذروتها عندما يعلن ابن عوف تعطيل الدستور ثم يُبقي "بالاسم" على المحكمة الدستورية! لماذا؟ ربما زلة لسان، ولكن ما قولك في أن الرجل أعلن تعطيل الدستور ثم بعدها بسويعات وقف يؤدي القسم "الدستوري؟ يا مثبت العقول يا رب.

والشاهد هو أن ابن عوف اختار أن يكون نذير شؤم على السودان، لأنه يقوم برفع سقف تحدي الملايين، التي تريد اقتلاع الدولة العميقة التي تكرست تحت حكم البشير، بتهديدهم بعواقب وخيمة في حال عدم الانصياع لقرار حظر التجوال، بينما ظلت الملايين تهتف في مساء أول يوم لسريان القرار "الليلة ما نرجع إلا ابن عوف يطلع"، يطلع هنا بمعنى يخرج ويرحل.

بعد سبع ساعات من إرسالي للمقال أعلاه للصحيفة، كان ابن عوف قد تقدم باستقالته، لمن؟ لا ندري، لأن المجلس الذي تولى رئاسته ما زال حتى هذه اللحظة افتراضيا ـ وآلت مقاليد المجلس إلى الفريق عبد الفتاح البرهان الذي جاء ببيان لا يختلف في مادته الجوهرية عن بيان ابن عوف، من حيث إبقاء البلاد تحت حكم المجلس العسكري لسنتين، مع بعض البهارات المتمثلة في إلغاء حظر التجوال ـ وقد قامت الجماهير بإلغائه من الناحية العملية طوال الليلتين اللتين ظل خلالهما ساريا، ومن حيث إعفاء الجنرالات حكام الولايات من مناصبهم، ثم إسناد تلك المناصب لقادة الحاميات العسكرية في الولايات، وبهذا دخلت البلاد في دوامة مواجهة جديدة بين العسكر والمدنيين، الذين يتهمون الجنرالات بأنهم الجناح العسكري لحركة البشير الإسلامية.