كتاب عربي 21

لماذا باسم عودة؟!

1300x600

لا تحتاج الكتابة عن الوزير السابق الدكتور باسم عودة إلى مناسبة، وإن كان اسمه يطفو على سطح الذاكرة عند الفشل وعند النجاح. فكلما فشلوا تذكرناه، وكلموا تذكرنا النجاح لا بد وأن يحضر بشخصه وبتجربته!

بيد أني تذكرته في هذه اللحظة لأني رأيت منشوراً لزوجته السيدة "حنان توفيق"، على صفحتها على فيسبوك، هو عبارة عن آية قرآنية كريمة: "الأخلاّء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين". فلا أخبار جديدة (على ما يبدو) عن الزوج الذي جرى تغييبه في السجون، ولم يكتف زميله السابق في مجلس الوزراء، اللواء عبد الفتاح السيسي، بمجرد سجنه، لكنه يضيّق عليه، وينكل به، ويمنعه من حقوقه الطبيعية كمسجون، دعك من حقه في محاكمة عادلة، فهذا هو الترف الذي لا نحلم به ولا ننتظره.

أقرأ في التاريخ المصري القريب فلا أرى مثيلاً لعبد الفتاح السيسي، الذي ينكل بالدكتور باسم عودة، دون أي مبرر. ولا بأس، فقد نكل بصاحب الفضل عليه الدكتور محمد مرسي، الذي رقاه لرتبتين عسكريتين، واصطفاه وزيراً، بإرادة الرئيس الحرة، ليثبت في السيسي القول الدراج: "اتق شر من أحسنت إليه"!

 

لا أرى مثيلاً لعبد الفتاح السيسي، الذي ينكل بالدكتور باسم عودة، دون أي مبرر. ولا بأس، فقد نكل بصاحب الفضل عليه الدكتور محمد مرسي، الذي رقاه لرتبتين عسكريتين، واصطفاه وزيراً

السادات ومراكز القوى:

لقد اعتقل السادات من أسماهم بمراكز القوى الذين كانوا يخططون لعزله والإطاحة به، لكن أحداً منهم لم يتعرض للإهانة في السجن، فقد شُفي صدره بمجرد اعتقالهم، وكان يكفيه مجرد التخلص منهم. وعندما نقل إليه أن مغنياً يزور وزير الإعلام محمد فائق في محبسه، وكان هذا المغني ممن يشاركون في سهرات السادات، سأله إن كان يزور الوزير فعلاً بشكل دوري.. وبإمكانه أن يتحقق من صحة الرواية بالاتصال بوزير الداخلية، لكنه آثر أن يسأل المطرب الذي اعترف بالمنسوب اليه، وقال إنه مدين لهذا الوزير بنجوميته، حيث فتح له الإذاعة والتلفزيون على مصراعيهما، فليس أقل من أن يزوره في سجنه بعد زوال سلطانه. وعلق السادات على اعترافه: "راجل يا فلان".

السادات بكل ما فيه من عيوب، إلا أن الفلاح بداخله تحرك ليثمّن هذا الموقف من قبل فنان أحسن إلى خصمه. وقد كان الوزير المسجون ضمن فريق لم يختلف معه في وجهات النظر، ولكنه خطط لإنهاء حكمه في بدايته، ويدرك بأنه إن لم يكن قد "تغدى" بهم فحتما كانوا "سيتعشون" به، ومع ذلك فلم يفجر في خصومته حد الانتقام منهم في السجن، أو في إيقاع الضرر بمن يتواصل معهم، ما دام التواصل من منطلق أخلاقي بحت!

ولم يكن السادات يحمل تقديراً للوفد وزعمائه، فلقد كانوا في مقام المحسن إليه، والطالب لعفوهم بعد محاولته اغتيال النحاس باشا. وكان في سنوات حكمه يغض الطرف عن الهجوم على ثورة يوليو مع أنه أحد ضباطها، وباعتبار أن الهجوم هو على تجربة عبد الناصر، لكنه غضب وهاج وماج عندما كان الهجوم من قبل الوفد، وقال في خطاب له إنه لن يسمح بالتطاول على ثورة يوليو ولن يتسامح مع من يهاجمونها؛ لأنه يدرك أن هجوم الوفد ينطلق من أرضية البديل، وليس مجرد معارضة مرحلة أو أشخاص في حكم ما بعد سنة 1952!

كرسي للباشا وسيجار لهيكل:

ومع هذا، فعندما اعتقل فؤاد سراج الدين في حملة أيلول/ سبتمبر 1981، وبلغه أن "الباشا" يجد صعوبة في الجلوس على الأرض داخل زنزانته، لضخامة جسمه، أمر بإدخال كرسي له. وقد كان بينه وبين محمد حسنين هيكل في السنوات الأخيرة حقد متبادل، لدرجة أنه وبّخ إبراهيم نافع، رئيس تحرير "الأهرام"؛ لأنه وضع في "مانشيت" الجريدة اسم هيكل مجاوراً لاسم فؤاد سراج الدين، كأبرز من شملتهم "قرارات التحفظ". وقال له: من "الجربوع" هذا الذي تضع اسمه مع الباشا؟ فؤاد سراج الدين هذا باشا، فمن هيكل هذا لتضع اسمه بعده؟!

 

لقد اعتقل السادات من أسماهم بمراكز القوى الذين كانوا يخططون لعزله والإطاحة به، لكن أحداً منهم لم يتعرض للإهانة في السجن، فقد شُفي صدره بمجرد اعتقالهم

وكان غضبه له دلالته، وقد وجدتني أضحك عندما اطلعت على قائمة المتحفظ عليهم بعد ذلك بسنوات، فوجدت اسم "حامد زيدان"، رئيس تحرير جريدة "الشعب"، هو الثالث في القائمة، وكان اسم "هيكل" بعده باسمين أو ثلاثة!

ومع هذه الحالة، فقد كانت حرم الأستاذ هيكل ترسل له في صباح كل يوم في السجن "وردة"، وكان السجن يفتح لاستقبالها لتسلم لصاحبها، بل كان السيجار يدخل لهيكل مع وجبات الطعام الساخنة من الخارج!

ولم يكن في هذا السماح ما يستحق الذكر باعتباره أداء إنسانيا عادياً، ليس فيه ما يُدهش، لكن بضدها تُعرف الأشياء، وقديماً قيل: والضد يُظهر حسنه الضد، وما فعله السيسي بعد ذلك لا بد وأن يعرّفنا الفرق؛ بين من اكتفى بسجن خصومه، وبين من لم يكفه سجنهم ويعمل ليل نهار على التنكيل بهم، دون ذنب؛ إلا إذا كان ذنبهم الذي لا يغتفر أنهم نجحوا، مثل "باسم عودة"، بينما هو يحمل توكيل الفشل في المنطقة!

أيقونة النجاح:

الدكتور باسم عودة هو "أيقونة" لحكم، نجح وفشل، وله وعليه، وأصاب وأخطأ، لكنه كان نسيجاً وحده، فنجح ولم يفشل، وصارت تجربة تحسب له لا عليه، وأصاب في إدارته لهذه الوزارة بانحيازه للناس، وإحساسه بالفقراء، فكان أنجح وزير في تاريخ هذه الوزارة وعلى مر العهود والعقود. فهل كانت هذه أزمته مع حكم الفشل الحاصل المعتمد موفداً له في الإقليم، فيتأذى من النجاح والناجحين، وتكون التعليمات بضرورة التضييق عليه، والتنكيل به، على نحو رواه أمام المحكمة التي تحاكمه، فكان واضحاً أنها لا تملك حولاً ولا طولاً، فاستمرت المعاملة السيئة، والحبس الانفرادي، والمنع حتى من صلاة الجمعة؟ فماذا فعل غير أنه نجح، فيغيظ نجاحه من يحمل توكيل الفشل؟!

 

نجح باسم عودة ولم يفشل، وصارت تجربة تحسب له لا عليه، وأصاب في إدارته لهذه الوزارة بانحيازه للناس، وإحساسه بالفقراء، فكان أنجح وزير في تاريخ هذه الوزارة وعلى مر العهود والعقود

عندما اشتد عود جبهة الإنقاذ، طالب الدكتور محمد البرادعي بأغرب طلب، تمثل في اشتراطه على الرئيس المنتخب إقالة باسم عودة؛ لأن نجاحه يحسب على جماعة الإخوان، فأضحك الثكالى بما طلب!

إن أحداً لا يجادل في أن وزير التموين باسم عودة قد نجح، ولهذا حاول السيسي في بداية الانقلاب الاتصال به لضمه لحكومته، واعتقد البعض أنها محاولة منه للاستعانة برجل نجاحه مجرب، لكن الواضح الآن أنها محاولة للانتقام بطريقة مختلفة، فيتم إفشاله، وحرقه سياسيا، وربما سجنه في قضية فساد، فلما رفض كان التنكيل به في السجن!

وهذا يطرح سؤالاً: إذا كان اختياره ليستمر في الوزارة لأنه وزير جيد، فلماذا يتم سجنه بعد ذلك على أساس أنه إرهابي؟ فمتى مارس الإرهاب؟ قبل محاولة الاتصال به أم بعدها؟!

إن الفاشل يعز عليه أن يقال إن هناك من نجح!