أفكَار

عشرون دقيقة الأخيرة في حياة مرسي: مفارقات السياسة والأخلاق!

محمد الشرقاوي: مات مرسي الإنسان في صمت وتضيع يومياته الحزينة حبيسة صدره دون أن توثّقها كتب التاريخ

لا عجب أن تكون وفاة الرّئيس المصري محمد مرسي، الذي قضى نحبه قهرا داخل قفص حديدي لا يرى فيه من يتّهمه ولا من يُحاكمه في إحدى محاكم القاهرة، بمثابة صخرة رمتْها الأقدار إلى بحيرة تبدو راكدة في ظاهرها، لكنّها متقلّبة الأطوار متضاربة الجاذبية بفعل تصادم التيارات الجوفية منذ صيف 2013 سيسية كانت أم إخوانية، عسكرية أم مدنية، استبدادية كانت أم ديمقراطية. 

 

إيماءات عفوية


تطايرت المياه من البحيرة في كلّ اتجاه وكأنّها إيماءات عفوية تنادي بضرورة غسل السياسة، وتنظيف الضمائر، وتنقية الذمم بماء طهور من تعَفّنٍ طال السكوتُ عنه سياسيا وأخلاقيا في "قاهرة المعزّ". فلو عاد إليها جوهر الصقلي الذي أسّسها قبل 1050 عاما من قبره لقال عنها إنها مدينة المذلّة الإنسانية والوضاعة السياسية التي يندى لها جبين من تبقّى لديه بعض من الكرامة بين المصريين.  

 

عشرون دقيقة توقّفت فيها عقارب السّاعة في كلّ الأزمنة العربية والغربية أمام نزعة اللامبالاة أو التشفّي في إنسان في سنّ الشيخوخة


يضيق قلب هذا الزّائر من عمق التاريخ عندما يظلّ مرسي في لحظة وهن جسدي ملقى على أرض القفص الحديدي في المحكمة مدّة عشرين دقيقة دون إسعاف طبي رغم صراخ من كانوا معه. تنعدم الإنسانية في قلوب القضاة، ويضع مسؤولو المحكمة سماعات بلاستيكية على آذانهم تجنّبا لصدى نداء الواجب الإنساني، وينقرض الضمير المهني لأطباء مصر الذين استكانوا لأوامر "السّلطات العليا" التي كلّما ارتفعت في تراتبيتها الإدارية والعسكرية، إلا واشمأزّت منها الإنسانية التي ترفض دسائس الانتقام والضغينة لدى أصحاب النفوس المريضة. 

 


عشرون دقيقة توقّفت فيها عقارب السّاعة في كلّ الأزمنة العربية والغربية أمام نزعة اللامبالاة أو التشفّي في إنسان في سنّ الشيخوخة ينهار إلى حافّة الموت، ناهيك أن يكون رئيسا سجينا انقلب عليه وزيره في أوّل تجربة ديمقراطية مصرية. هو إنسان في حالة ضعف، فوق كلّ اعتبار سياسي أو أيديولوجي، كان يتمسّك بآخر نفس في رئتيه وهو يعاني مضاعفات أعراض السّكري والفشل الكلوي وضغط الدم طيلة ستّ سنوات من الحبس الانفرادي وسوء المعاملة وشح الغذاء ومنع الزيارات العائلية.

كان قدر مرسي أن يموت تدريجيا، بإرادة من سجنوه، جرّاء منعه من العلاج وسط معاناة مستدامة مع عذاب المرض وانكسار المعنويات داخل قبر الحياة الدنيا بحكم الأمر الواقع بين الزنزانة والقفص الحديدي في المحكمة قبل دخوله قبر الآخرة. يقول ابنه إن ما حدث يمثل "جريمة قتل بطيء تمّ إنهاؤها الإثنين".

 

الضمير العالمي!

 

يغيب ضمير العالم عند ضياع الإنسانية في القاهرة، وتصبح المحكمة آخر فصول تراجيديا الحياة والموت التي بدأت في صيف 2013 وانتهت في صيف 2019. هي تراجيديا مصرية جديدة بروح المأساة الإغريقية القديمة كما وصفها الفيلسوف أرسطو بأنها "محاكاة أي حدث يثير انفعال الألم، وغالباً ما ينتهي بالموت، ويكون بطل الحدث شخصاً ذا مكانة عالية".

 

ظهر مركّب الحقد والبغضاء وبلغ ذروته في قلوب البعض الذين تكلّست قلوبهم وتخشّبت ضمائرهم في معاداة مرسي الإنسان

 
هي تراجيديا الأغنية الحزينة وقوس قزح الغائب عن سماء القارة منذ ستّ سنوات. وهي المأساة المضاعفة في حياة مرسي وموت مرسي بعيدا عن اعتبارات الإنسانية. وتعرّف اتفاقيات جنيف الإنسانية بأنّها "جسدية وعاطفية وروحية." وكما يقول الدكتور سليم هيوغو Slim Hugo مسؤول السياسات العامة في اللجنة الدولية للصليب الأحمر "أن تكون على قيد الحياة هي مسألة بيولوجية، ولكن أن تعيش حياة كريمة ـ حياة إنسانية حقيقية ـ فهي تتطلّب علاقة اجتماعية، ووسائل للبقاء وموارد روحية." طيلة ستّ سنوات، عانى مرسي رحلة العذاب الجسدي والنفسي في زنزانة انفرادية دون تغذية صحية مناسبة أو علاج طبي ضروري أو انتعاش روحي مستقر أو وصال عائلي حميمي.  

ظهر مركّب الحقد والبغضاء وبلغ ذروته في قلوب البعض الذين تكلّست قلوبهم وتخشّبت ضمائرهم في معاداة مرسي الإنسان، ولهم كلّ الحق في انتقاد مرسي الرئيس وسياساته. وانزلق خطاب العدائية المفتعلة إلى درك أسفل، فاستخدم أحد "الصّحفيين" الشامتين خالد ناجح عبارة تنمّ عن فقدان الآدمية والاعتبار المعنوي لسجين دون جريمة. فكتب يقول "نفق من كان سبباً هو وجماعته في ترويع الآمنين وإرهاب المواطنين واستشهاد الأبرياء من رجال وسيدات وأطفال مصر وأولادنا في الجيش والشرطة… اللهمّ لا شماتة لكن لا أستطيع الترحّم عليه فقد انتقل من الحساب في الدنيا للحساب في الآخرة التي سيكون مصيره جهنّم إن شاء الله جزاء ما فعل هو وجماعته". 

يموت مرسي الإنسان في صمت وتضيع يومياته الحزينة حبيسة صدره دون أن توثّقها كتب التاريخ. منعته سلطات مصر من آخر أمنياته بأن يتمّ دفنه في مسقط رأسه، بعد أن حرمته ورفاقه الإخوان من حلم ديمقراطي راودهم منذ تسعين عاما. وقف حرس الدولة في حي مدينة نصر شرق القاهرة يرقبون عملية الدفن وكأنه الميت الحيّ الذي قد يعود من جديد. وأمام هذا المشهد اللانساني، تنحبس أنفاس جوهر الصقلي الحائر في هذا الزّمن الخنوع بغصّة جديدة في جنجرته وهو يُعاين مشهد الانحطاط الأخلاقي قبل السياسي، فينسلّ إلى مسامعه صوتٌ مترنمّ قادم من بعيد للشاعر فاروق جويدة وهو يلقي مرثيته الشهيرة "النيل يرفع راية العصيان":
 
لا تسألوا كيف انتهى سلطانـي
وتكسّـرت في غفلة تيجـاني
لم تحفظوا عهدي وخنتم رايتي
حين استبحتم حرمة الإنسان!
كم صرتُ نارا حين راوغنـي العدا
ورأيت طيف الغدر في سجّـانــي
من باع إيماني وخان فضائلي
وأعادني للشـرك والبهتـــــــان؟!
كيف ارتضيتم محنتي وهواني؟!
فتـمرّدت خيلي على فرسـاني
هل يسكن القلب العنيد إلى الثـرى
وتلفّني في وحشة أكفـــــــــاني
للشامتين على ثرى جثماني؟!

عشرون دقيقة تختزل تراجيديا مشبعة بروح المؤامرة بحبكة شكسبيرية في دهاليز القصر والوزارة بين كانون أول (ديسمبر) 2012 وحزيران (يونيو) 2013، عندما كان وزير الدفاع السيسي يخطط للإطاحة برئيسه بإيعاز من جنرالات المجلس الأعلى للقوات المسلحة وبعض رجال الأعمال المتنفذين في حصاد خيرات مصر. هي دوما قصة القطط السمينة التي لا تقبل أن تضيع منها احتكارية أربعين في المائة من عائدات الاقتصاد المصري في بلد يعتد فيه العسكر بأنّهم فوق جميع السلطات وجميع المؤسسات. فتمّ تركيب قصة "توقيعات الثلاثين مليونا" بالتواطؤ مع حركة "التمرّد" من أجل قلب الطاولة على حكم الرئيس مرسي. 

 

يموت مرسي الإنسان في صمت وتضيع يومياته الحزينة حبيسة صدره دون أن توثّقها كتب التاريخ.


عشرون دقيقة أخيرة في هذا العالم استعادت خلالها ذاكرة مرسي بشكل سريع أحداثا سريالية ودسائس ومفارقات مثيرة لا تجتمع عادة في عام واحد بين مراسم أداء الجنرال السيسي القسم الدستوري أمامه وزيرا للدفاع في الحكومة الجديدة، وليلة نجحت المؤامرة عندما أبلغ الوزير الرئيس بأنّه سيضعه رهن الاعتقال. هي لعبة السياسة اللعينة بين قوى الخير وقوى الشرّ عندما يتم ذبح الأخلاق والإنسانية عند أقرب ركن مظلم في دهاليز القصر، فتنقلب الرذيلة على الفضيلة. تتوالى المشاهد في ذاكرة مرسي حسرة على وضع الثقة في غير أهلها عملا بالمقولة العربية "اتق شرّ من أحسنت إليه." 

عشرون دقيقة كانت سريالية في ذهن مرسي إلى حدّ يفوق الخيال العلمي في أفلام هوليود. كان يتذكر الحوار المباشر الأخير بينه وبين السيسي الذي جاءه إلى القصر مزهوا بمشية الطاووس عشية الزجّ به في السجن:

 



قال مرسي: إيه موقف الجيش مما يجري الآن؟ هل سيبقى في موقف المتفرج؟ مش المفروض يحمي الشرعية؟   

فرد السيسي: أي شرعية؟ كل الجيش مع الشعب، وحسب التقارير الموثوقة، الأغلبية الكبرى من الشعب مش عايزاك.
 
قال مرسي: أنصاري كثيرين ومش حيكونو ساكتين.

قال السيسي: الجيش مش حيسمح لأي كان إنه يدمر البلد بأيّ حال من الأحوال.

قال مرسي: وإذا رفضت أترك؟

قال السيسي: المسألة منتهية وموش بإيديك. حاول تترك بكرامتك وبلّغ دول اللي بأيّديوك أنهم يرجعوا بيوتهم تفاديا لحدوث مذبحة بدلا من تهديد الناس.

قال مرسي: بالطريقة دي حيكون انقلاب، وأمريكا مش حاتسبيك وحدك.

قال السيسي: اللي بيهمنا الشعب موش أمريكا. وبما أنك بديت تتكلم بالطريقة دي، حتكلم معك بصراحة. عندنا الدليل أننا ندينك أنت وعدد كبير من المسؤولين في الحكومة بأنكم تلاعبتو بالأمن القومي بتاع مصر. الجهاز القضائي حيقول كلمته، وأنت حتحاكم أمام كل الشعب. 

قال مرسي: تمام، تسمح لي ببعض المكالمات التلفونية، وبعدها أقرر أعمل إيه.

قال السيسي: موش مسموح. بس ممكن نسمح لك تشوف عيلتك بس.

قال مرسي: أنا محتجز ولاّ إيه؟

قال السيسي: من الآن، أنت محتجز.

عشرون دقيقة في ذاكرة مرسي طريح الأرض تسارعت فيها الصور من مواقف قديمة وحديثة في مسلسل خذلان إرادة الشعب في أرض الكنانة بعد تنحي حسني مبارك. هي أمّ المفارقات عندما يدخل مرسي الزنزانة ويغادرها مبارك الذي جثم على صدور المصريين ثلاثين عاما دون محاسبة. هي عبثية "العدالة" المصرية حسب مقاس مجلس العسكر، ومتاهة أخرى في منطق تراجيديا القاهرة حيث تعمل السياسة المصرية بعملة صكوك الغفران للبعض ممن هن "بتوعنا" وصكوك الإدانة لمن هم "بتوعهم". انشطارية القاهرة وبقية مصر وشتات مصر في العالم تنمّ عن صراع الوجود بين الشر والخير، بين جبروت القوة وحدود الضعف. وكما قال المؤرخ اليوناني توكدايدوس في كتابه عن تاريخ الحرب البيلوبونية التي وقعت بين أثينا وإسبارطة عام 411 قبل الميلاد "للقوي أن يفرض ما يشاء، وللضعيف أن يتحمل ما يستطيع." 

عشرون دقيقة تختزل لحظات حاسمة لا تؤرخ لموت مرسي فحسب، بل لموت ثان لجنين ديمقراطي حملته به مصر في ميدان التحرير وغيره من الساحات التي تغنت فيها الجماهير بالأمل في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. وفي رحيل مرسي تعزية مزدوجة بعد إجهاض مدبّر لنواة ديمقراطية عربية كان من المفترض أن تولد من رحم إرادة الشعب ونتائج صناديق الاقتراع، لكنّها تحولت إلى مطرقة حديدية في يد السيسي يقرع بها على رؤوس قرابة ستّين ألفا من المعارضين من نشطاء إسلاميين وليبراليين وعلمانيين من حركة 6 أبريل وغيرها ممن يعانون القهر في سجون مصر حاليا.

عشرون دقيقة أخيرة في عمر مرسي لم يتمعن كثيرون بعد في مغزاها ودلالتها السياسية والأخلاقية، وكأن التاريخ العربي يعيد ذاته بتصفية حسابات أخرى في المعركة بين عثمان ومعاوية في القرن الجديد. فيكون لمعاوية مصر الجديد فرصة تغيير الدستور وسط تطبيل المهرولين بأغنية "كمّل جميلك!" ولا يصحو الضمير العالمي لعشرات الألاف من مُرسيين أخرين من نشطاء الثورة من مختلف المشارب السياسية القابعين في غياهب السجون.

يعيدنا رحيل مرسي إلى المربع الأول بثلاثة أسئلة محورية: أوّلها علاقة العقل العربي بمنطق الديمقراطية، وثانيها، هل هناك عقل أخلاقي عربي خالص؟ وثالثها واقع أخلاقيات السياسة في الغرب بين الدفاع عن قيم الحرية والتحول الديمقراطي وغض الطرف عما آلت إليه أوضاع مصر منذ صيف 2013!

قبل أن يصل جثمان مرسي إلى مثواه الأخير قبل أقل من أربع وعشرين ساعة على وفاته، بدا المعلّقون وبعض رجال السياسة منقسمين إلى فِرَقٍ وشِيَعٍ، وقد أشهر بعضهم سيوف الحنق والجهالة وتنكّروا لسماحة المبدأ العربي "اذكروا محاسن موتاكم". من هؤلاء من صبّوا جامّ بغيضهم إلى حدّ الشماتة والتشهير واتهامه بالخيانة. أحد هؤلاء عمرو موسى الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية الذي عاصر الرئيس مرسي وتزلّف له قبل تزلّفه للسيسي، كتب يقول إنّ "محمد مرسي رمز لحكم الإخوان المسلمين لمصر لعام كامل، لم يستطع أن يؤدي فيه كرئيس لكلّ المصريين. سوف يحكم التاريخ على نتائج حكم الجماعة ورئيسها لهذا البلد الكبير. أعتقد أنّه سيكون حكما سلبيا." كغيره من ركّاب الموجات المواتية في بحر السياسة، نسي موسى أو تناسى أنّ ذاكرة الشعوب أقوى من ذاكرته. فردّ عليه الكاتب الصحفي وائل قنديل بالقول "أكرم من حاتم الطائي أوضع من عمرو موسى من أمثال العرب قديمًا وحديثًا". 

 

يخشونه حيا وميتا

 


مفارقة الخشية من مرسي حيا وميتا ظهرت جلية في مواقف أغلب الحكومات العربية التي منعت إقامة صلاة الغائب. وانقسم المشهد بين تجاهل النظام العربي الرسمي واعتراف النظام العربي الشعبي بشخصية الراحل ومكانته السياسية في تاريخ مصر. وكانت لحظة حاسمة في اختبار المسؤولين العرب بين خيار الجرأة السياسية في لحظة إنسانية وخيار الاختباء وراء ظلالهم. بعض رؤساء الحكومات تلعثموا خلال التعليق أمام الكاميرات على وفاة الراحل. من هؤلاء رئيس الحكومة المغربية وزعيم حزب العدالة والتنمية، المعروف بمرجعتيه السلفية ولقائه مع الرئيس مرسي في القاهرة، الذي اكتفى بعبارة باهتة تنمّ عن انصياعه لبعض المحظورات فقال "رحمه الله ورحم جميع موتانا". 

 

كان بنكيران استثناء في حفظ سجل الراحل في ذاكرة المصريين وبقية العالم


بيد أنّ شخصيات سياسية أخرى خارج دائرة السلطة أبدت تقديرا أفضل للرّاحل مرسي. وقال عبد الإله بنكيران رئيس الحكومة وزعيم الحزب سابقا إنّ "مرسي آمن بالقوانين والديمقراطية التي اعتمدتها بلده، وأصبح رئيسا بطريقة مشرفة، ثم قدّر الله ما قدّر بعد سنة من تحمّله المسؤولية، وسجن منذ ذلك الوقت". كان بنكيران استثناء في حفظ سجل الراحل في ذاكرة المصريين وبقية العالم، فتساءل "هل هناك أحد يتهم مرسي بخيانة الأمانة وبلده وبأكل أموال الناس، أو بالظلم أو بالفساد أو التخلي عن فلسطين؟ هذا ما يمكنه أن يشكل مشكلة، أما مرسي فقد كان متعلقا بالله، ومن كان متعلقا بالله، لا ينتظر التفاتة من البشر".

في الوقت ذاته، قال هشام العلوي ابن عم العاهل المغربي والذي تخلّى رسميا عن صفة "أمير": "نعم، لقد ارتكب الرئيس مرسي أخطاء سياسية، لكنه يبقى المجسد للشرعية الديمقراطية، وعاجلا أم آجلا ستفرض هذه الشرعية نفسها من جديد في مصر". وفي تونس العاصمة التي يعتبرها كثيرون مرتعا خصبا لثقافة التّسامح والتعايش تقف فاطمة المسدي العضو في حزب "نداء تونس" في البرلمان تنادي بعدم قراءة الفاتحة على روح مرسي، وتطالب بـ"عدم أخونة البرلمان التونسي"، وتجازف بالوعيد بتصنيف النهضة "حركة إرهابية في حال ارتباطها بجماعة الإخوان المسلمين".

 



غير أن التكريم الرسمي لروح الفقيد جاء من خارج الجغرافيا العربية عندما شدد الرئيس التركي طيب رجب أردوغان أنّ "التاريخ لن ينسى" الذين تسببوا في موت مرسي بسجنه وتهديده بالإعدام. وبعيدا عن الاعتبارات السياسية التي قد تتداخل أحيانا في مثل هذه المواقف الإنسانية، يلقى مرسي تقديرا تلقائيا بين فئات واسعة من الجماهير والمثقفين وحتى السياسيين ونشطاء حقوق الإنسان ممن لا يتفقون مع منحاه السياسي أو العقائدي. قال أحد المعلقين "حقا بكيت هذا الرجل استاذا جامعيا وسياسيا ورئيسا منتخبا ديمقراطيا اختلفت معه وقبلها بكيته انسانا عاش تراجيديا أن يختار المرء قاتله." وكما قال الصديق إدريس الكنبوري إنّ مرسي "واحد من قائمة طويلة في التاريخ الإسلامي ممن ماتوا في السّجن ظلما أغلبهم علماء طلاب حق لا طلاب دنيا".

 

التكريم الرسمي لروح الفقيد جاء من خارج الجغرافيا العربية عندما شدد الرئيس التركي طيب رجب أردوغان أنّ "التاريخ لن ينسى" الذين تسببوا في موت مرسي


انتقدت ظروف سجن مرسي. وأوضحت ساره لي واتسون مديرة إدارة الشرق الأوسط في منظمة هيومن رايتس ووتش أن وفاة مرسي "كانت متوقعة تماما بالنظر إلى إخفاق الحكومة في تقديم الرعاية الطبية الملائمة له وعدم سماحها حتى بالزيارات العائلية." وقال النائب في حزب المحافظين، كريسبين بلانت، الذي يرأس لجنة مراجعة الاحتجاز المستقلة، وهي مجموعة من أعضاء البرلمان البريطانيين والمحامين الذين نشروا تقريرًا في مارس 2018 حول كيفية معاملة مرسي في الحجز "كنا نخشى ألا يُزود الدكتور مرسي بالمساعدة الطبية العاجلة، وللأسف، لقد ثبت أننا على حق."

لست سلفيا ولا إخوانيا، ولي مواقف نقدية من سياسات الرئيس مرسي وحكم الإخوان وغيرها من تجارب الحركات الإسلاموية في المنطقة. من أخطائه الجسيمة فشله في إقناع المصريين بقدرته على تولي صلاحيات المنصب الذي اختاروه له، ناهيك عن التلويح بمفهوم الشرعية أكثر من تكريسها في قناعات المصريين بتقديم حصيلة عملية للتغيير والإصلاح. ولكني أتمسك بقناعاتي أن الديمقراطية والحداثة والحكم الرشيد ثلاثية متكاملة لا تقبل القسمة، وأن لكل تنظيم سياسي للمجتمع أدوات وآليات ومسارات ينبغي القبول بها من البداية حتى النهاية مع احترام التعددية والحرية في الاختلاف وتكريس التفكير النقدي في السياسة وفي الدين وفي شتى مناحي الحياة العامة. لكن لا يمكننا أن نكون أنصاف ديمقراطيين أو أنصاف حداثيين أو أنصاف مناصرين لإرادة الشعب والاحتكام إلى صناديق الاقتراع أو مؤمنين بنصف منطق تكافؤ الفرص بين شتى التيارات السياسية والمذهبية. 

من يقبل "إدانة" الرئيس مرسي بالتخابر مع "حماس" الفلسطينية عليه أن يفكر مليّا في مقارنة هذه التهمة بما يخفيه انفتاح الرئيس السيسي على ليكودية نتنياهو أو يمينية ترامب، أو تقديم التأييد اللامشروط لما يسمّى "صفقة القرن" التي تشهد ولادة عسيرة ومتقطّعة المخاض، أو قراره قصف بيوت الأهالي في سيناء بدعوى "مكافحة الإرهاب".

لا خيار للمثقفين والرأي العام العربي إلاّ أن يكونوا مع التعددية وتكافؤ الفرص والتنافس الشريف بين الحداثة السياسية والإسلاماويات السياسية وكل مشارب الفكر المختلفة في مرحلة البحث عن نظام عربي بديل. وكما جاء في كتاب "المثقف القلق ضد مثقف اليقين"، يقول خالد الحروب "لا يحقّ لأحد زعم أنّه ديموقراطي، ثم القول بأنّه لا يحق للإخوان المسلمين أن يستلموا الحكم إن فازوا به عن طريق انتخابات حرّة ونزيهة. كما لا يحقّ لأحد أن يبالغ في التظاهر بديموقراطيته عبر الإقرار لهم بذلك الحق، لأن هذا الإقرار ليس منّة أو تفضلاً، بل هو ألف باء التفكير الديموقراطي، وهو المتوقع من أي شخص ديموقراطي أصلاً."

ينتهي دفن مرسي في صمت، ويعود جوهر الصقلي في رحلة الألف عام إلى جيرانه في القاهرة القديمة ليروي لهم ما آلت إليه أحوال القاهرة الجديدة: فيروي كيف تتنهّد أهرامات الجيزة حسرة في صمت، وتقيم مدينة الألف مئذنة صلاة الغائب بحضور ملائكة الرحمة وغياب المصلين الخائفين من انتقام فرعون الجديد. أما ميدان التحرير الصاخب بهجة في العادة فيئنّ الآن في عزلته في قبضة السياجات الحديدية ونظرات الحراس المتجهة القاسية. ومع قتامة المشهد، يكفهرّ قلب القاهرة في جنائزية اللحظة وانتحار الإنسانية ومصر الجديدة.

يعود الصوت مجددا إلى أذن جوهر الصقلي بما يقوله النيل عن تلك الدقائق العشرين الأخيرة في حياة محمد مرسي: 

الآن أقرأ في دفاتر رحلتي
فأرى الجحود.. وجفوة الخلان
تتراقصون لكل ذئب قادم
وتراوغون.. كرقصة الحملان!
وتهـرولون إلى الأعادي خلسة
خلف اللصوص.. وباعة الأوطان!
خنتم عهـود الأرض.. بعتم ســرهـا
للغاصبين بأبخـس الأثمان
من باعني أرضا وخان قداسـتي
من دمّر التاريخ في وجداني؟!

 

*أستاذ تسوية الصراعات الدولية في جامعة جورج ميسن في واشنطن، وكبير الباحثين في الوحدة الانجليزية لمركز الجزيرة للدراسات، وعضو سابق في لجنة الخبراء في الأمم المتحدة.