قضايا وآراء

من آداب الاستعانة بالله

1300x600
لعلَّ أهم أمارة يقينيَّة للتوفيق في الدعاء؛ هي لزوم حد الأدب مع رب البريَّة جلَّ في علاه. والأدب مع الله لا يعني لزوم الحد في اللفظ المستعمَل للطلب فحسب، بل يعني حُسن إدراك ما يُطلَب وما لا يُطلَب. ومثال ذلك ما قد نستنبطه مما رُوي عن جدنا الإمام الصادق، عليه وآله سلام الله؛ أنه قال: من طلب ما لم يُخلَق؛ تَعِب ولم يُرزق، قيل: وما ذلك يا إمام؟ قال: الراحة في الدنيا. والطلب هنا محمولٌ لا على معنى السؤال فحسب، بل على معنى السعي والكد داخل الدنيا في سبيل شيء. ومن ثم، كانت معرفة ما يُطلَب وما لا يُطلَب من تمام الفهم عن الله، إذ هو حفظ إلهي لوضوح غائيَّة الوجود الإنساني، وصيانة لطاقة هذا الكائن المكرَّم من التبدُّد فيما لا طائل تحته. 

وربما كان أهم مفاتيح هذا الفهم عن الله، والتوفيق في السؤال؛ هو تلافي الرعونة في سؤاله تعالى أول شيء قد يتبادر إلى ذهنك، لئلا تكون ممن يدعو بالشر دعاءه بالخير؛ بل تتأنى، إذ تُسائل نفسك أولا هل تحقَّقت بالشرط الإلهي (إن كان ثمة شرط معيَّن) الذي تستحق أن تؤتى به سؤلك؛ فإن من سوء الأدب مع مولاك (تقدَّست أسماؤه) أن تسأله ما قرن إجابته بشرطٍ لم تتحقَّق به، وذلك مثلا كما قَرَنَ تنزُّل نصره على عباده بنصرهم له في أنفسهم وعلى أهوائهم.

أما المفتاح الثاني فهو اليقظة، والتنبُّه لئلا تستغني نفسك العجول الجهول بالتعدي في الدعاء عن سعي العبوديَّة قياما بواجب التكليف، وهو سلوك من لا يُبالي أن يُستبدَل؛ فإن من سوء الأدب مع رب العزة سبحانه أن تسأله ما تعبَّدك أنت بالسعي لتحقيقه، كأن تسأله النصر على شيء أو قومٍ قد أمرك جل شأنه بمدافعتهم ومقاتلتهم بنفسك، والانتصار منهم بإذنه وحوله. وهو ما سيُعيدك للمفتاح الأول، إذ تُدرِك أن تنزُّل نصره مثلا لا يتعلَّق بمدافعتك البرانيَّة التي يسَّرك لها واستعمَلك فيها فحسب، بل هو مقرون أولا بشرط جواني: نصرك إياه تعالى في نفسك وعلى نفسك.

أما المفتاح الثالث فهو مُكمِّلٌ للمفتاحين السابقين، فإذا وقفت عند حدك ولم تطلب ما قرن استجابته بشرط لم تحققه، واستكملت ذلك بألا تسأله ما كلَّفك به وتعبَّدك بالسعي لتحقيقه بإذنه؛ فإن هذا المثلث لا يكتمِل إلا بإدراكك أن طلب التوفيق والنُصرة لا يكون إلا وأنت تُصارِع قدرك المقدور، وقد تحقَّقت بشرط النصر وشرعت فعلا بالمدافعة، كدعاء حضرة سيدنا النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) ربَّه يوم أُحد مثلا، وهو في غمار المدافعة؛ فإن من سوء الأدب أن تسأله التوفيق وتطلب نُصرته وأنت قاعِد لا تُبالي، وقد شُغِل قلبك قبل حواسك عما تعبَّدك الله به.

فإذا منَّ الله عليك بحُسن تمثُّل المفاتيح السابقة؛ انبثق منها في روعك تلقائيّا عدد من القواعِد التي تُلزِمُ بها نفسك، إلزام المقرَّبين حين يكتُب الله لهم الترقي فوق مكانة الأبرار؛ ليزداد تأدُّبك مع الله رهافة.

ولعل أهم هذه القواعِد بإطلاق هو إدراكك أن حُسن الأدب مع الله إنما يكون بفهم عنه تعالى يؤدي للانصراف عن الإلحاف في طلب المكتوب المقدور كالرزق (بأنواعه)، فإن كان لا بُد من الإلحاف؛ فليكن ذلك في طلب العافية والنجاة في الدنيا والآخرة. فإذا أدركك هذا الأدب الرفيع؛ اقترن في روعك بلطفٍ إلهي يوجِّه قلبك إلى معرفة ما القضاء الذي يستحق فعلا أن تنفق جهدك في مدافعته بالدعاء؛ ألا وهو الفتنة في الدين، نعوذ بالله منها. ومتى عرفت ولَزِمت؛ فُتِحَ عليك بأن الاستعانة به تعالى إنما تكون على الدنيا، وليس داخلها. أي أن تطلب الاستغناء به تعالى والعفو منه سبحانه في دعاء جامع، كدعاء حضرة سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا"، أو ما علَّمنا إياه رب العزة في كتابه العزيز: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار"؛ فإن طلب الأعلى يُهوِّن الأدنى ويجعل حصوله مسألة فرعيَّة ثانويَّة (تحصيل حاصِل) لا تستحِقُّ انشغال القلب وإلحاف اللسان.

ومن أمثلة الأدعية الجامعة في هذا الباب دعاء كان مولانا الشيخ الشعراوي (رضوان الله عليه) يُكثِر ترديده: "اللهم أغنني بالافتقار إليك ولا تُفقرني بالاستغناء عنك".

وقد يتوهَّم البعض أن في هذا صرف للعباد عن العناية بشؤون دنياهم، لكنَّه في حقيقة الأمر صرفٌ لقلوبهم عن الانشغال الضار بما تكفَّل به الرب الإله لعباده جميعا، مؤمنهم وكافرهم؛ وكتبه على نفسه وعليهم منذ الأزل، إذ رزقهم حتى قبل أن يُعلمهم السؤال.

وهو كذلك ترقية لهم من مرتبة من يعبُد الله على حرف، أو من يعبده طمعا؛ إلى مرتبة من يعبده محبَّة وولاء لأنه سبحانه مُستَحِقٌّ للعبادة. وقد قال تعالى في حديث قُدسي مشهور (تعدَّدت طرقه وتقاربت ألفاظه) "من شغله ذكري عن مسألتي؛ أعطيته ولا أبالي". فلم يُنزِل هذا الحديث منزلته التي يستحقها (علما وعملا) إلا جمهرة من سادة الصوفيَّة والعُبَّاد والزُهَّاد، لا الذين انصرفوا عن الكبد داخل الدنيا وانسحبوا منها وآثروا العُزلة في الزوايا والخوانِق، وإنما أهل العلم والعمل منهم، الذين صرف الله قلوبهم عنها؛ فسادوها بصدق العبوديَّة له جلَّ ثناؤه. سادوها لا بالتكالُب عليها، وإنما بصدق الاستعانة بمن هو آخذ بناصية كل ما فيها ومن فيها سبحانه. نسأل الله أن يكتبنا منهم، آمين.  
__________
(1) لعل اطلاع القارئ على مقالنا المعنون: "مع القرآن"، والمتاح على شبكة الإنترنت؛ يُفيده في إدراك خلفيَّة ما نتناوله في هذا المقال.