كتاب عربي 21

الأحزاب لا تصنع الثورات.. السودان نموذجا

1300x600
من راقب المشهد السوداني خلال الأشهر السبعة الماضية، يلاحظ أن الحراك الشعبي المطالب بالتغيير، وبرغم اقتلاع نظام عمر البشير، الذي كان المستهدف الأول بالحراك، لم تخبُ جذوته بل يزداد عنفوانا، وما ذلك لأن الشعب السوداني أكثر استنارة من الشعوب الأخرى التي ثارت ضد أنظمة ظالمة باطشة، ولكن لأن الحراك ظل يسترشد بتوجيهات قيادة حظيت منذ يومها الأول بثقة الجماهير، لكونها بلا أجندة سياسية تتعارض وتوجهات الثورة وغاياتها.

تلك القيادة هي تجمع المهنيين السودانيين، الذي قام دون إذن أو تصريح حكومي، بل كان منذ تأسيسه في عام 2015 منبرا ملاحقا من حكومة دكتاتور السودان المخلوع، عمر البشير، لكونه يشكل تحديا وترياقا مضادا للنقابات والاتحادات المهنية التي شكلتها الحكومة، لتفتّ من عضد الحركة النقابية، بابتداع ما أسمتها نقابات المنشآت، بحيث يكون المدير والخفير أعضاء في نفس النقابة (كان رئيس اتحاد العمال في السودان لحين طويل من الدهر أستاذا جامعيا بدرجة "بروفيسور"، صار لاحقا وزيرا للخارجية).

يتألف تجمع المهنيين السودانيين، مما بات يعرف بالنقابات الموازية، أي تلك التي لا تعترف بالنقابات التي أنشأتها حكومة البشير، وأوكلت أمرها لانتهازيين مهمتهم الأساسية ضمان عدم نشوء حركة مطلبية تؤدي إلى إضرابات عن العمل، أو إلى تسييس العمل النقابي، وانضمت إلى التجمع شرائح واسعة من الأطباء والمحامين والمعلمين وأساتذة الجامعة، وغيرهم من المهنيين. وحتى أواخر العام 2018، قصر التجمع مناطحته لحكومة البشير في أمر يمثل أحد أهم أركان العمل النقابي، ألا هو مطالب تحسين الأجور والظروف المعيشية.

ثم وفي كانون الأول/ ديسمبر 2018، تفجرت المظاهرات في عدد من المدن السودانية احتجاجا على غلاء أسعار السلع الضرورية، ولجأت الحكومة إلى الأسلوب الوحيد الذي تجيده، وهو القمع الأمني الذي ارتد عليها، فازداد أوار الغضب الشعبي اشتعالا، وطرحت الجموع شعار رحيل النظام، وتقدم التجمع لقيادة المسيرة، وتولى طرح جداول التظاهرات والفعاليات الاحتجاجية، وتجاوبت معه الجماهير التي رددت الملايين منها شعار "تجمع المهنيين يمثلني"، ردا على مقولات الحكومة بأن التجمع كيان وهمي.

ومع دخول الاحتجاجات أسبوعها الثالث، كان التجمع قد قرأ المشهد على نحو سليم، وأيقن أن الحراك سيؤدي إالى سقوط نظام البشير، فكان أن قرر توسيع ماعون قيادة الثورة باستقطاب كيانات سياسية ومدنية وحركات مسلحة، كي تتولى الإعداد لمرحلة السقوط النهائي للنظام وما بعدها، وكان أن ظهرت في الساحة قوى الحرية والتغيير (قحت).

وهكذا، فإن هذه الكتلة النقابية المهنية هي القائد الأول للثورة السودانية التي تدخل فصلها الثالث، باستشراف مرحلة تشكيل حكومة مدنية، بعد توافق مبدئي بين "قحت"والمجلس العسكري الذي تشكل بعد سقوط البشير (كان الفصل الأول إزاحة البشير، والثاني إزاحة الجنرال ابن عوف نائب البشير الذي نصب نفسه رئيسا للمجلس العسكري).

ومن يرصد مجريات الأمور في الساحة السودانية اليوم، يدرك أن تجمع المهنيين ما زال القوة المركزية في "قحت" المؤلفة من تنظيمات ذات توجهات وأجندات مختلفة ولكن متوافقة مرحليا، وأن التجمع يحظى بثقة تلك التنظيمات، بوصفه كيانا مكرسا فقط لتنزيل أهداف الثورة إلى أرض التطبيق، وبالتالي فإنه، واستنادا إلى عدم انحيازه لتيار سياسي دون غيره، قادر على إدارة التوازنات داخل "قحت".

كانت النقابات المهنية قد لعبت دورا مركزيا في الإطاحة بديكتاتورية جعفر نميري في عام 1985، ولكن في إطار جسم ضم العديد من الأحزاب السياسية، التي سرعان ما انشغلت بالمغانم، وأفقدت ذلك الجسم فعاليته، فكان أن رحل نميري، وبقي نظامه ينوء على البلاد بكلكل.

يجدر بالذكر أن النشاط العمالي في تاريخ السودان الحديث بدأبمناهضة للمستعمر عام 1908م بأول إضراب لعمال مناشير الغابات، ثم استجاب الاستعمار البريطاني لضغوط عمال مختلف القطاعات، وسمح بقيام أندية العمال في عدد من المدن عام 1934، وشهد عاما 1946 و1947 مولد أقوى النقابات في تاريخ السودان، وهي نقابة السكك الحديدية، والتي لعبت أدوارا مركزية في معارك الاستقلال، ثم ضد الحكومات الدكتاتورية، ولهذا لم يكن غريبا أن يعمد نظام عمر البشير إلى تدمير السكك الحديدية بالكامل، كوسيلة مضمونة لجعل هذه النقابة عديمة الجدوى والفعالية.

وفي المقابل، فإن شبابا ثوريين أنقياء فجروا ثورة 2011 المصرية على مستوى تحريك الشارع، ولكن ما أن دخلت الأحزاب السياسية متفرقة خط الثورة في مراحلها الأولى حتى بان عوارها، فكان أن انشغلت تلك الأحزاب باليوم التالي، ولم تنتبه إلى أنه "على من يريد الأحد أن يُقدّم السبت"، بمعنى أن على من يريد المستقبل أن يعمل "الآن" على تمهيد الأرضية له.. وهكذا تفرق دم الثورة المصرية بين قبائل الأحزاب، وخرج الشباب والأحزاب من مولد الثورة بدون حمّص.

وفي الجزائر خرجت الجماهير بالملايين إلى الشوارع مطالبة برحيل نظام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بكامل رموزه، وكما في السودان دخل العسكر على الخط، وقدموا أنصاف حلول تمثلت في ترحيل بوتفليقة وعدد قليل من حاشيته، مع وعد بتنظيم انتخابات لاختيار رئيس وحكومة جديدة، ولكن الحراك الشعبي (وعن تجربة) يرفض انتخابات تنظمها دولة بوتفليقة بشقيها العميق والسطحي، بما عرف عنها من مهارة في التزوير والتلفيق.

ما يُقعِد الحراك الشعبي الجزائري عن بلوغ غاياته، هو أن الأحزاب المشاركة فيه ليست على قلب رجل واحد، بحيث تجلس لتفاوض الحكومة المؤقتة والعسكرتاريا وهي موحدة وملتفة حول برنامج وجدول زمني لتنفيذ مطالبها، ومن ثم فليس من العسف القول بأن الهبة الجماهيرية في الجزائر حققت حتى الآن "رُبع" انتصار، وأن الطريق أمامها ما زال طويلا؛ لأن الأحزاب السياسية مجبولة على المماحكات، وتناور وتحاور وجل همها ضمان حصة كبيرة من الكراسي.

وبالطبع، لا يمكن الحديث عن ديمقراطية في غياب أحزاب، ولكن تجربة الثورة السودانية الحالية تؤكد أن النقابات المهنية والعمالية وبحكم أنها ذات جذور شعبية، هي الأقرب إلى نبض الشعب والشارع، والأقدر على تحريك الشعب، لتحقيق الغايات الأوليّة التي يصبو إليها الشعب والشارع، وبعدها فليتنافس المتنافسون.