قضايا وآراء

ماذا قرأ تولستوي

1300x600
في الخامس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر 1891م؛ وضع الروائي والفيلسوف العظيم ليو تولستوي (وهو في الثالثة والستين من عمره) لائحة لأهم القراءات وأكثرها محورية في حياته، مرتَّبة حسب المراحل العمرية؛ مُبرِزا فيها ما أثَّر في شخصه تأثيرا عميقا، وساهم في تكوينه. وإليك أهم ما اشتملت عليه لائحته النفيسة، التي ضمَّنها بعض رسائله.

فمن الطفولة إلى مشارِف المراهقة (سنِّ الرابعة عشرة)؛ ضمَّت اللائحة قصة النبي يوسف في الإنجيل، تليها مختارات من "ألف ليلة وليلة"، خصوصا قصص: "علي بابا والأربعين حرامي" و"الأمير قمر الزمان"؛ لتأتي أشعار الملهِم ألكزاندر بوشكين (أمير شعراء روسيا) في ذيل القائمة، خصوصا قصيدته المعنونة: "نابوليون"، التي يرجح أنها نُظِمَت في عام 1821م.

وفي مرحلة المراهقة (من الرابعة عشرة إلى العشرين)؛ جاء على رأس لائحته "موعظة الجبل" للسيد المسيح عليه السلام، والتي أوردها إنجيل متَّى في فصولٍ مُتتابعة؛ وهي تُعَدُّ لبَّ الإنجيل ومدار العهد الجديد. وقد تشرَّب تولستوي تعاليم هذه الموعظة، وأصَّل لها، ودافع عنها طيلة حياته. بل، ولا أغالي إذ أذهب إلى أن الفضل يرجع لهذه الموعظة بالأساس في تكوين تولستوي كفيلسوف ديني. تلي ذلك رواية ديفيد كوبرفيلد، للعظيم تشارلز ديكنز؛ ثم اعترافات جان جاك روسّو وكتابه "إميل أو التربية"، ثم جمهرة من كتابات الساخِر نيقولاي غوغول (أحد آباء الأدب الروسي) تليها بعض الأعمال  لإيفان تورغينيف وميخائيل لرمنتوف (شاعر القوقاز وأهم شعراء روسيا بعد بوشكين) والروائي الواقعي ديمتري غريغوروفيتش، علاوة على قسط من أشعار بوشكين والألماني فريدريش شللر؛ رفيق غوته.

وكان أهم ما طالعه تولستوي في شرخ الشباب (بين العشرين والخامسة والثلاثين)؛ هو رائعة أبي الأدب الألماني يوهان فولفغانغ غوته: "هيرمان ودوروتيا"، والتي قدَّمها تولستوي على العمل الكلاسيكي الشهير لفيكتور هيغو: "أحدب نوتردام"، تليهُما الإلياذة والأوديسة لهوميروس، ثم بعض محاورات أفلاطون خصوصا محاورتي فيدون والمأدبة، ثم ذُيِّلَت تلك الحقبة بكم ضخم من الشعر الروسي. وربما كان سبب تضاؤل مطالعاته في هذه المرحلة، التي تصدَّرها الشعر؛ هو أن قلَّة من الناس فحسب من يجدون وقتا لرفاهية القراءة في هذه المرحلة المحوريَّة من حياتهم العمليَّة، مرحلة الكَسْب، أو ربما كان سبب ذلك ببساطة هو اعتقاد تولستوي أن الإنسان في هذه المرحلة العمريَّة يجب أن يكون أشد انشغالا عن القراءة بالحياة نفسها.

وما بين الخامسة والثلاثين والخمسين (مرحلة النضج)؛ أعاد تولستوي قراءة الإلياذة والأوديسة بلغتهما اليونانية الأصليَّة، وقرأ سيرة زينوفون (تلميذ سقراط) التي عنونها بـ"أنابسيس"، لكنَّه فضَّل عليهما رواية فيكتور هيغو الاستثنائيَّة: "البؤساء"، وجاءت كل روايات الروائيتين البريطانيتين، جورج إليوت (ماري آن إيفانز) وإلين وود؛ في ذيل القائمة، جنبا إلى جنب مع روايات مواطنهما أنطوني ترولوب.

أما في مطلع شيخوخته (بين الخمسين والثالثة والستين)؛ فقد أعاد تولستوي قراءة الأناجيل كلها باللغة اليونانية، ثم قرأ سِفر التكوين بالعبريَّة، ثم بعض كتابات لودفيغ فيورباخ عن المسيحية، وخواطر بليز باسكال؛ علاوة على كتبٍ في البوذية والكونفوشيَّة، وشيئا من فلسفة الطاو للحكيم الصيني لاو تزو.

وإذا كانت القائمة التي اختصرناها آنفا تكشِفُ حجم استهلاك تولستوي للأدب، وحُسن اطلاعه على عيون تراث الإنسانيَّة الأدبي؛ إلا أنها تكشِف كذلك عمق وسعة اطلاعه على الفلسفات الدينيَّة، وترسم له صورة كفيلسوف ومُصلِح ديني بصير، وهو السمت الذي غلب عليه في شيخوخته المتأخِرة؛ كاشفا عن الأعماق الحقيقيَّة لشخصيَّته الثريَّة. فقد بدأ تولستوي حياته أديبا، وأنهاها فيلسوفا، ذلك أنه إذا كان الشغف بالآداب ديدن الشباب، وحكم "الصنعة"، في حالة كاتبنا العظيم؛ فإن التأمُّل في الكون وما يصدُر عنه من تفلسُفٍ هو "صنعة" الشيوخ، الذين عركتهم الحياة وتركت ندوبها على أرواحهم.