كتاب عربي 21

جوكر الغرب وجوكر العرب

1300x600
اختارت الإدارة الأمريكية أن تصوّر على الكوتشينة أو أوراق القمار أو أوراق اللعب؛ حكاّم العراق المطلوبين للعدالة الأمريكية الغازية. كانت فقرة الكوتشينة لازمة في أفلام الكاوبوي ومترافقة مع العنف والقتل والإثارة، وباشر بها محمد بن سلمان نهضته من رقابة الوهابية الدينية واللحاق بركب الحداثة من ذيلها، فرأينا إمام الحرم يلعب البلوت.. الجوكر شيطان، هو الورقة الثالثة والخمسين من ورق اللعب، وجهه ملوّن، مخفيٌ تحت الأصباغ، هو كل شيء في اللعبة، منقذٌ أحياناً، وفي بعض الألعاب بلا أثر.

تجمع الآراء على أنّ فيلم الجوكر علامة فارقة في تاريخ السينما، والذي جنّدت له الحكومة الأمريكية الجيش والشرطة خوفاً من حدوث مجازر في الشوارع والمدارس، فكأنما أُطلق الشيطان من عقاله. ويتردد أن الممثل خواكين فينكس لم يكن منتبهاً إلى رسائل الفيلم الخطيرة بالدعوة إلى التمرد السياسي، أحمد بحيري قدّم قراءة ممتازة للفيلم بعنوان: كلنا جوكر سعيد في برنامجه "تعا شب شاي"، وربطها بالثمانينيات، وإن كان ربطها بنيويورك واضحاً، لكنه فاتته أيضاً رسائل أخرى. فالفيلم مليء بالرسائل، وأخرى تحتاج إلى بيان، مثل سبب كتابة رسائل الأم بأحرف روسية أو سلافية.

والجوكر ليس أول بطل فيلم أمريكي يسعى للانتقام، على نقيض دعوة المسيح: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، إنه يمضي إلى القتل من أجل شجار في قطار لأنه كان يضحك، وضحكته قسرية، فهو مريض.

يروي الفيلم حكاية ذكرت الصحافة أنها شخصية بطل الفيلم، وهي مقتبسة من شخصية حقيقية، لشخص مصاب بالضحك اللاإرادي، اسمه آرثر فليك، يعمل مهرجا كوميدياً بالأصباغ كما في فقرات السيرك، ومسلّح بمسدس أهداه له صديقه بعد سرقة صبية إحدى إعلاناته، وهو مريض يتعاطى أدوية، تحت إشراف رقيبة حكومية، له عين ينحدر منها ما يشبه الدمعة.. يطمح إلى تقديم برنامج كوميدي من نوع "ستاند أب"، له محاولات للظهور وسعي للنجومية، والنجومية سلطة.. يعيش مع أمه التي يكرمها ويبرّها، وتروي له بعضاً من تاريخه، فيسعى إلى أبيه، وهو عمدة مدينة غوثام، للاعتراف به، كما كان عنترة بن شداد بصبغة وجهه السوداء يسعى للاعتراف ببنوّته من شداد، والتي نالها بفروسيته، لكن الأب ينكره، ثم يعلم آرثر من سجلات النفوس أن أمه تكذب عليه، وأنها مربيته، وأنها كانت مريضة ولها عشيق، وكانا يعذبانه صغيراً، فيقتلها خنقاً بالوسادة، وكان قد قتل ثلاثة عابرين في القطار بعد أن سخروا من ضحكته، التي حاول عبثاً أن يقنعهم بأن قهقهته مرض لا قهقهة سخرية، ولا سبيل له بالسيطرة عليه.. ويقتل والده، الذي يرمز للسلطة، ثم يقتل صاحبه الذي أهداه المسدس، وجاء للاحتفال معه، والاتفاق معه على رواية واحدة للجريمة لدى المحققين، فيقتله قتلاً بشعاً بالمقص، ويطعنه في عينه، لأنه هو الذي زوّده بالمسدس ووشى به أمام المدير، وجعل المدير يطرده من العمل. ثم يترك صاحبه الثاني القزم، لتأتي الجريمة الثالثة التي جعلته بطلاً للمهرجين في غوثام، وهم بالآلاف، فيقتل صاحب أشهر برنامج كوميدي، على الهواء مباشرة، لأنه سخر منه في برنامجه..

الجوكر منتقم غاضب يثأر من كل أعدائه والذين أساؤوا إليه. آخر جريمة في الفيلم هي قتله للمشرفة عليه، ففي المشهد الأخير يمشي وظهره لنا وآثار الدماء خلفه.

غوثام مدنية عدمية، ظالمة ومظلمة.. هي كل مدينة أمريكية، المهرجون فيها طبقة اجتماعية لكثرة الألم والبطالة، وقد كثر الطلب على الضحك في زمن نجاح الثورات المضادة والجوع، فتناسلت برامج الإضحاك في بلاد العرب، وكان أشهرها برنامج البرنامج لباسم يوسف التي رعته أموال الإمارات.. وكان المهرج قد نجح في قتل محمد مرسي معنوياً، قبل أن ينتهي واقعياً، ثم قتل المهرج الثاني الذي فاق كل المهرجين في التهريج؛ رئيساً منتخباً بعد أن حبسه في قفص زجاجي، على الهواء مباشرة.

في كتابه "خطاب الجنون" يروي محمد حيان السمان بعضاً من أخبار المجانين، الذين كانوا يجهرون بالمعارضة السياسية، فلا يجهر بها غيرهم إبان عهود الطغيان. وقد ورث المضحكون المعاصرون المعارضة السياسية من أولئك، مثل دريد لحام الذي لا يخاف سوى من الله والمخابرات، وعادل إمام الذي يسخر من الزعيم، لكنهما وغيرهما كانوا بعد انتهاء العرض يصفّقون للطاغية. ثم جاء عصر المهرج السلطان، وكان القذافي أشهرهم، ثم تكاثروا، وبذّوه، فرأينا عبد الفتاح السيسي، وحفتر الذي جعل نفسه مشيراً، وبشار الأسد.. القذافي كان متواضعاً بشأن الرتب العسكرية، فلم يرقِّ نفسه إلى أكثر من عقيد، لكنه سعى إلى ألقاب كثيرة، مثل إمام المسلمين، وملك ملوك أفريقيا.. المهرج هو رجل نقائض، وهؤلاء الطغاة أكثر نقائض من المهرجين، بل وأصباغاً أيضاً.

خصائص المهرج السلطان كلها تناقضات، فهو متديّن وعلماني، مؤمن وكافر، بطل وطني وعميل مخلص، فيلسوف وجاهل، مغرور ومتواضع، أكرم الناس وأذلّهم وأنذلهم، فحل وقُرني..

لم يرَ التاريخ مهرجاً مثل المهرج الثاني عبد الفتاح السيسي، الذي قدّم فقرات "ستاند أب"، فجمع الشيوخ والقساوسة والعسكر وأعلن الانقلاب، ومعظم فقراته يقدمها وهو جالس وظهره إلى الشعب، ثم ارتكب سلسلة من الجرائم لم يشهدها تاريخ مصر، وعلى الهواء مباشرة، كانت صفاتها التشفّي والشماتة والاستئصال، قنص للنساء وحرق للشيوخ والأطفال في رابعة، ولم تصدر نأمة من العالم الحر، المتقدم، الذي كان يستمتع بعرض الجوكر..

والمهرج الثاني يشترك مع الجوكر آرثر في خصيصة أساسية هي قتل الأم، أو تأجيل دفن أمه، من أجل عرض برنامج قناة السويس، والخبر كان معروفاً، وإن كان محمد علي قد أعاد التذكير به.

عرضُ الجوكر العربي الملكي كوميدي وتراجيدي، بل إن ضحكة السيسي وقهقهة بشار الأسد تبدوان لا إراديتين، و"كي كي كيكي". عروض السيسي والأسد في المؤتمرات والمقابلات شديدة الإضحاك، على عكس عروض آرثر، ومن عروض الجوكر العربي: ظهور محمد بن سلمان في هيئة الرجل الوطواط وهو يُستقبل في العاصمة البريطانية، وروايات السعودية بشأن خاشقجي التهريجية..

الجوكر العربي العسكري الذي رُبيّ في أمريكا وعواصم الغرب يقتل الأب، والإسلام أب، والشعب أب، والتاريخ أب، وقد قُتل الثلاثة، فالرئيس الملك هو ابن الشعب البار، وهو يضع كثيراً من الأصباغ والأقنعة، فكرية ودينية، بل ودهانات وزبيبة صلاة، وقد امتلأت الشوارع بالعاطلين والمحللين السياسيين والمهرجين أيضاً.

من التشابهات والتضادات بين الجوكر العربي والجوكر الأمريكي:

إن الجوكر الأمريكي غير مضحك، بل هو مبكٍ، أما الجوكر العربي، فمضحك جداً. والسبب هو موقع السلطان الذي حلّ فيه، فالجوكر الأمريكي مواطن بلا سلطة، مع أن كليهما مريضان نفسياً.

إن ضحايا الجوكر الأمريكي هم من السلطة؛ العمدة، الأم، الزميل، المحققة، أما الجوكر العربي فضحاياه من الشعب.

كلاهما الجوكر الأمريكي والجوكر العربي من ضحايا السلطة الأمريكية، بخلاف مسرح الأحداث الذي في حالة الجوكر العربي هو "الشرق الأوسط".

إن الجوكر الأمريكي ليس لديه سوى مسدس، أما الجوكر العربي، فله سلطة مطلقة، لم يحزها نيرون ولا كاليغولا.

الجوكر الأمريكي يعيش في غرفة في حي شعبي، أما الجوكر العربي، فيعيش في القصور الفارهة ولا يشبع من بنائها، وبالدَين متزايد الفوائد.

وهكذا..