قضايا وآراء

خصخصة مشروعات الجيش: قنبلة دخان.. ماذا وراءها؟

1300x600
لم يكن مفاجئا لي شخصيا حديث السيسي حول طرح بعض مشروعات الجيش الاقتصادية في البورصة خلال الفترة القادمة، أسوة ببرنامج الطروحات الحكومية لعدد من الشركات الحكومية المصرية.

وكان السيسي قد صرح في 31 تشرين الأول/ أكتوبر، خلال افتتاح مصنعين جديدين للكيماويات تابعين لوزارة الإنتاج الحربي في محافظة الجيزة (غرب القاهرة)، عن طرح شركات تابعة للجيش في البورصة خلال الفترة المقبلة. وقال السيسي إن "الدولة المصرية تسير في خطة طرح عدد من الشركات والأصول الحكومية في البورصة المصرية منذ ثلاث سنوات، ولا بد أيضا من طرح شركات القوات المسلحة، ليكون أمام المصريين فرصة امتلاك أسهم في هذه الشركات، ولكي نفتح باب المشاركة المجتمعية في هذه الشركات".

وأوضح أن القطاع الخاص مرحب به للشراكة في جميع ما تقدمه المؤسسات المملوكة للدولة، ضاربا المثل بمشروعات الصوب الزراعية.

وأعتقد أن النقاش حول هذا الطرح يجب أن يتطرق للإجابة على سؤالين رئيسين، أولهما حول لماذا الآن؟ وهو السؤال الذي يتعلق بدلالة التوقيت، والسؤال الثاني: كيف سيتم هذا الطرح؟

بالنسبة لتوقيت هذ التصريح، فمصر قد انتهت بالفعل من برنامج ما سمي الإصلاح الاقتصادي مع صندوق النقد الدولي، وقد بدأت بالفعل مؤخرا مفاوضات البرنامج الثاني، كما صرح بذلك مؤخرا وزير المالية محمد معيط. ومن المفهوم أن شروط البرنامج الأول يجب أن يتم تنفيذها بالكامل كشرط رئيس للبداية في مفاوضات، أو حتى لإتمام اتفاق البرنامج الثاني.

وحيث أن معظم الشروط المفروضة على مصر خلال البرنامج المنتهي قد نفذت بالفعل، ولم يتبقى منها إلا رفع أسعار الوقود والكهرباء (إزالة الشرائح الأخيرة المدعومة منهما)، وهو أمر ارتضى الصندوق تأجيله مرحليا بسبب استمرار انخفاض أسعار البترول عالميا، لا سيما بعد شبه الاستقرار لسعر البرميل من النفط عند 60 دولارا في مقابل 67 دولار في الموازنة العامة المصرية الحالية.

كما أعلنت الحكومة المصرية أنها ماضية قدما في حذف ما أسمتهم غير المستحقين من البطاقات التموينية، وذلك بعد تصريحها عن عودة 1.8 مليون مواطن من هؤلاء المحذوفين في أعقاب تظاهرات أيلول/ سبتمبر الماضي، ثم نفيها لتلك الإعادة عقب خفوت التظاهر بعد ذلك، وهو ما أشار إلى مغازلة الحكومة للصندوق بالتصريح بأنها لا زالت على طريق تنفيذ الشروط.

لم يتبق من الشروط الأساسية والتي لم يبدأ تنفيذها تقريبا؛ إلا طرح الشركات الحكومية في البورصة، حيث أعلنت الحكومة في آذار/ مارس 2018 عن طرح حصص من 23 شركة وبنكا في البورصة، على أن يتم تنفيذ الطرح في الربع الأخير من العام نفسه. وتستهدف الحكومة من وراء الطروحات توفير تمويل لعجز الموازنة العامة بقيمة 80 مليار جنيه من عوائد بيع تلك الشركات.

قررت الحكومة تأجيل الطرح لأكثر من مرة بسبب أزمة الأسواق الناشئة وتراجع أسعار الأسهم في البورصة، حتى بدأ التنفيذ أخيرا في آذار/ مارس 2019، بطرح حصة من أسهم الشرقية للدخان رغم استمرارية تراجع أداء البورصة.

الاستعراض السابق يوضح باختصار أن الدولة يجبرها صندوق النقد الدولي خلال الفترة القادمة على غض الطرف عن التراجع الضخم للبورصة المصرية على مستوى كافة المؤشرات، والتدني غير المسبوق في أسعار الأسهم، مقارنة بنهاية عام 2017 وبداية 2018، وأن الأسعار مقومة بالدولار منخفضة للغاية، خاصة وأن الجنيه لم يتحسن إلا يسيرا خلال الأشهر القليلة الماضية مقارنة بانهياره في مرحلتي ما قبل وما بعد التعويم، وأن المستهدفات المالية الحكومية من هذا الطرح قد لا تتحقق بسبب هذا التدني السعري.

وهذا لا يعني أن الحكومة ليست متورطة في التفريط في أصولها، بل تورطت مع العوامل السابقة في ذلك، حينما تعمدت تحديد كيفية التسعير بعيدا عن بيوت التثمين الدولية والمحلية، بل واعتمدت آلية متوسط سعر السهم خلال الشهر الأخير قبل البيع كمحدد رئيس ووحيد للسعر، رغم إقراراها بتدني الأسعار وإرجاء البيع لأكثر من مرة لنفس السبب، وهو ما يعني إهدار أصول الشركات والتي تتمثل أساسا في الأراضي، والتي بالطبع لن يعكسها متوسط سعر السهم، مما يعني أننا أمام حالة متعمدة من التلاعب بالقيمة الحقيقية لتلك الشركات؛ بدأت قبل الطرح من خلال آلية تسعير فاسدة، ولم يكن تأجيل الطرح لمرات متتالية إلا قنبلة دخان ابتدائية للفت الانتباه بعيدا عن عملية فساد متعمدة.

وأعتقد أن شروط الصندوق هذه المرة تخطت الجانب الإجرائي إلى الجانب المذهبي، فوصفة الصندوق ليبرالية متطرفة، تعطي الدور الاقتصادي الأكبر وربما الأوحد للقطاع الخاص، بينما إجرائيا على أرض الواقع يبدو أن الجيش يحل محل القطاع العام، بل الأدهى هو حصوله على مميزات سيادية يعجز معها القطاع الخاص على البقاء في السوق من الأساس وليس المنافسة.

رأى الصندوق في ما سبق إشكالية مذهبية، إضافة إلى الإشكالات الإجرائية المعتادة من القطاع العام والتغول الاقتصادي للجيش، والتي ربما لها خطورتها المستقبلية على النتائج المترتبة على برامجه، بل على الوصفات التي يقدمها للدول الأخرى التي ربما تطالب بأخذ نفس مسار الجيش المصري.

مما سبق يمكن القول إن تصريح السيسي بطرح بعض شركات الجيش في البورصة، كان تحت وطأة الحاجة الملحة للسلطة المصرية لإبرام اتفاق جديد مع الصندوق، والذي يضمن حال إتمامه حصول مصر على قرض جديد من الصندوق، كما يضمن استمرار فتح الأبواب المغلقة والتي فتحت بعد إتمام الاتفاق السابق، خاصة بعد الإعلان عن سداد مصر أكثر من 13 مليار دولار كقروض وفوائد خلال العام الحالي. وسوف تستمر تلك الأعباء خلال السنوات القادمة، خاصة مع استمرار فشل تدوير العجلة الإنتاجية.

وبالتالي، كان على الحكومة تبرير الطرح حاليا لشركات الدولة رغم انخفاض الأسعار، وهو الحال الذي طالما رفضته الحكومة لعامين سابقين وأجلت الطروحات بسببه. ومن هنا أرى أن السيسي قدم غطاء هاما للطرح الحكومي في الفترة القادمة، بإعلانه أن مشروعات الجيش هي الأخرى للبيع، وكأن رسالة السلطة المصرية إلى الداخل المصري: سنطرح الشركات للبيع، ونعرف أن الأسعار متدنية للغاية، ولا توجد شبهات تواطؤ وفساد، والدليل أن الجيش يقبل بطرح بعضا من شركاته.. بينما رسالتها إلى صندوق النقد والمؤسسات الدولية: مصر تسير قدما في التحول نحو الليبرالية الاقتصادية بنسختها المتطرفة، والدليل ليس فقط برنامج دهس الطبقتين الفقيرة والمتوسطة، ولكن ها نحن نبيع ما تبقى من شركات القطاع العام بل وشركات الجيش كذلك.

أما عن إجابة السؤال الثاني، وهو كيف سيتم هذا الطرح، فأعتقد أن النظام وكذلك قيادات المؤسسة العسكرية ليسوا جادين في التخلي عن جزء من مشروعاته، والتي يعدونها مكتسبات يمكن الدفاع عنها بالدم، كما عبّر عن ذلك صراحة أحد أعضاء المجلس العسكري عام 2012. كما أعتقد أنه سيتم الالتفاف على مضمون العملية، وذلك من خلال أكثر من طريقة يمكن أن نسمع بها خلال المرحلة القادمة.

من بين تلك الطرق التي يمكن بها الالتفاف وإفراغ عملية بيع الجيش لبعض مشروعاته من مضمونها الحقيقي، استخدام السوق الأولية للبورصة لتمويل توسعة شركات الجيش المستهدف طرحها، ثم طرح نسبة التوسع أو أقل منها فقط في البورصة، والتي هي في الأساس ملك المساهمين بها، مع الاحتفاظ بملكية الجيش لنفس الحصة، أو أكثر من الأسهم الموجودة سابقا.

ومن بين الطرق كذلك، طرح المشروعات المشتركة بين الجيش والقطاع الخاصة في البورصة، وهي تلك المشروعات التي تكاثرت بشدة خلال الفترة الماضية (حينما استخدم الجيش أراضي الدولة كحصة يشارك بها القطاع الخاص)، على أن يحتفظ الجيش بنسبته كاملة في المشروع، والتي تتيح له حق الإدارة مع السماح بتداول نسبة أسهم القطاع الخاص فقط.

قد يتخلص الجيش من بعض المشروعات التي أثارت سخطا عاما بين الجماهير، وأضاعت هيبته وصورته الذهنية لدى العامة، مثل مشروعات الأسماك، أو تلك المشروعات التي تورط فيها الجيش دون دراسة جدوى سابقة وبالتالي هي عرضة للخسائر، مثل مشروعات الصوب الزراعية التي تحدث عنها السيسي، والمعرضة للخطر في حال شح المياه المتوقع أثناء ملء سد النهضة والذي أضحي قريبا، كما أن منتجات المشروع بذاته تنافس صغار المزارعين وقد تشكل ضررا بالغا عليهم في ظل ضعف إمكاناتهم مقارنة بالجيش، إضافة إلى اضطرار الجيش إلى نشر عساكره في الأسواق لبيع المنتجات من الخضروات، وكل ذلك يثير السخرية والسخط لدى الفلاحين البسطاء ضد الجيش.

إذا، يمكن القول إن السيسي وجدها فرصة لضرب مجموعة من العصافير بذات الحجر، فبها يحصل على شهادة جديدة من صندوق النقد الدولي، ومن خلاله يمدد مرحلة الاقتراض الراهنة والتي من غير المعلوم متى يمكن الاستغناء عنها، وفي نفس الوقت يتخلص من بعض المشروعات غير ذات الجدوى الاقتصادية والمهددة بالخسائر، وتلك التي تضرر منها البعض أو أصابت سلبيا صورة الجيش، وفي نفس الوقت الحصول على إمكانية التوسع والتمدد للمشاريع عبر البورصة، وأخيرا الحصول علي صك المشروعية لبيع ما تبقى من مشروعات القطاع العام، مع إرضاء حلفائه العرب والأجانب الذين سيتربحون من الآلية الفاسدة للتسعير، وكل ذلك تحت ستار من الدخان الكثيف الذي تخلقه حالة عرض مشروعات الجيش للخصخصة.

بقي أن أؤكد رفضي التام لبيع المشروعات الحكومية، لا سيما أن معظمها يحقق أرباحا تذهبا إلى الموازنة العامة للدولة مزمنة العجز، والدليل الأبلغ على ذلك أن شركة الشرقية للدخان التي بدأت بها الحكومة عملية الطرح؛ ورّدت 56 مليار جنيه إلى وزارة المالية العام الماضي، وهو الرقم الذي يقارب 25 ضعف ما وردته هيئة قناة السويس خلال نفس العام. كما أن الكثير من هذه الشركات تمس الأمن القومي المصري، خاصة شركات البتروكيماويات والبنوك، وبالتالي فلا مبرر اقتصاديا حقيقيا من وراء عملية التخلص منها.

كما يتعين في هذا الإطار كذلك الإشارة إلى أن الحكومة لم تشر إلى كيفية تعاملها مع عمال الشركات المزمع طرحها في البورصة، وكيف ستحافظ على حقوقهم، أو حتى الاستفادة من خبراتهم في حال الاستغناء عنهم.

يمكن قبول أن يمتلك الجيش مشروعات اقتصادية، ولكن بشروط ثلاث رئيسية، أولها أن يتوجه لإنتاج الأسلحة والذخيرة والتكنولوجيا، وثانيها أن يخضع للرقابة والمساءلة والمحاسبة، شأنه شأن بقية النشاط الاقتصادي العام للدولة، وثالثها ألا يتميز بمميزات خاصة سيادية تضمن له التفوق، بل وفي الكثير من الأحيان الاحتكار.

وأخيرا، من حق الشعب المصري الرقابة على كل المشروعات الممولة من المال العام أو من ثرواته، كما من حقه الرقابة على توزيع الأرباح الناتجة عن تلك المشروعات، وكذلك من حقه ابتداء وجود دراسة جدوى حقيقية وجادة لأي مشروع يستخدم الموارد العامة، كما من حقه التأكد من منع الممارسات الاحتكارية، وكذلك من واجبات الدولة الحفاظ على المقدرات الاقتصادية الوطنية وعلى رأسها شركات القطاع العام الرابحة، وكل هذه الحقوق لن تعمينا عن المطالبة بها أو استردادها قنابل الدخان التي تلقيها السلطة بين الحين والآخر.