قضايا وآراء

الإسلام والرجم (18): ادعاء التواتر في أحاديث الرجم

1300x600

لا زلنا نناقش أدلة من قالوا بأن الرجم حد، وتناولنا الآيات والأحاديث التي وردت في الموضوع، والنقاش حولها. ومما استدل به القائلون بالرجم: أن ما ورد فيه من أحاديث بلغت حد التواتر، وهنا يلزم النقاش حول الحديث المتواتر، وشروطه، وهل فعلا يتحقق في أحاديث الرجم هذه الشروط الموضوعة في التواتر، وما الفرق بين نظرة المحدثين للحديث المتواتر وشروطه، ونظرة الأصوليين له وشروطهم فيه، وهل أجمع الفقهاء القائلون بالرجم على تواتره؟ 

يبين الدكتور عبد الله الجديع أمرا مهما في قضية التواتر في السنة، والفرق بينه وبين تواتر القرآن فيقول: "والتواتر في الأحاديث النبوية هو من باب (التواتر النظري) لا من باب (التواتر الضروري)؛ لأن معرفته موقوفة على جميع طرق الحديث ورواياته، فهو مبني على البحث والنظر، والعلم به غير حاصل ضرورة كتواتر نقل القرآن المستغني عن الأسانيد والطرق.

 

معظم من قالوا بأن الرجم حد من الفقهاء ـ وهم جمهور الفقهاء ـ لم يدع أحد منهم التواتر اليقيني في مرويات الرجم،


لذا فالتواتر بالحديث لا يُستغنى فيه بمجرد تعدد الأسانيد عن ثبوت أفرادها؛ فمن الأحاديث ما تعددت أسانيده وكثرت، لكنها واهية لا يثبت منها شيء.

وهذا المعنى أغفله أكثر من تعرض لهذا الموضوع، خصوصا أن أكثر من تكلم في التواتر هم الأصوليون، وهؤلاء تكلموا في التواتر الضروري، كتواتر القرآن، ومن ثم عدَّاه طائفة إلى الحديث، وأغفل هؤلاء أن نقل القرآن ليس كنقل الحديث، فلا يستويان، فتواتر القرآن أغنى في صحته عن البحث في الإسناد، بخلاف تواتر الحديث، فإن عمدته على الإسناد، ويكفيك دليلا على ضعف القول باستغناء الحديث المتواتر عن الإسناد ما تنازعوه في قدر ما يُدَّعى فيه التواتر، فإن موجب التسليم لصحته دون مناقشةٍ على طريقة أهل الأصول، فكيف يصحُّ التنازع بعدُ في شيءٍ من ذلك: هو متواتر أو غير متواتر.

ولذا أحدث معنى للتواتر ليستوعب الحديث العائد إلى الإسناد، وهو (التواتر النظري)، إشعاراً بأن تمييز ما يُفيد العلم من الحديث على سبيل القطع ليُساوي التواتر في معناه، موقوف على النظر والبحث".(1)
 
شروط الحديث المتواتر:

وقد وضع العلماء شروطا للحديث المتواتر، وما يهمنا هنا الشروط التي وضعت في المتواتر من حيث عدد رواته، فقد اختلف الأصوليون والمدارس الأصولية في العدد الذي يعتد به في التواتر، وقد أحسن الإمام المازري حين نبه على تضارب أقوالهم فقال: (وأما ضبطهم بعدد ما من ناحية المبدأ والأول، فقد كثر اضطراب المتكلمين في هذه المسألة من سائر الطوائف، فنقلت في ذلك مذاهب، ولو سبق الأئمة لنقلها لاقتضى الحال الإضراب عن ذكرها، لإشعارها ببعد المذاهب إليها عن التحصيل).(2)  وما قاله المازري قاله غيره من الأصوليين، وبينوا قضية الاضطراب في مسألة العدد الذي يعتبر به التواتر.

وقد نقل الإمام الزركشي آراء الأصوليين في العدد الذي يعتد به في التواتر وعرض لرأي كل منهم ودليله فقال: "والمشترطون للعدد اختلفوا واضطربوا اضطرابا كثيرا، ثم راح يذكر خلافهم في العدد، ويدور الخلاف حول اشتراط العدد في التواتر حول هذه الأرقام: 10 ـ 12 ـ 18 ـ 20 ـ 40 ـ 70 ـ 313 ـ 1400 ـ 1500 ـ 1700".(3)
  
وقد ناقش أصوليون كثر هذه الآراء، وفندوا هذه الأقوال وأدلتها، وذهب معظمهم إلى عدم صحتها، ولا صحة ما استندوا إليه، من خلال الأدلة التي ساقوها، سواء من حيث دلالات هذه الأدلة، أو من حيث دخولها في الموضوع، مثل: الجويني(4)، والمازري(5)، وأبو يعلى الفراء(6)، والطوفي(7)، والإسنوي(8)، والأصبهاني(9)، واللكنوي(10)، والشوكاني(11)، وبخيت المطيعي(12)، وغيرهم.
 
ذكرنا هذه الأقوال في العدد المعتبر في التواتر، ورفض كثير من الأصوليين لهذه الأقوال، وأدلتها، لنرى أن المسألة ليست موضع اتفاق، ولذا هي مسألة تقديرية، فهل ينطبق شرط التواتر على الرجم؟

أدلة العثماني على تواتر الرجم:

إن أكثر من فَصَّل في هذا المبحث، وقال بأن الرجم متواتر لفظا ومعنىً، هو: العالم الجليل الشيخ محمد تقي العثماني في شرحه لصحيح مسلم، وسوف أنقل فحوى كلامه لأن فضيلته أكثر من فصل في المسألة، وعني بالتأصيل لها، وذكر الأدلة والبراهين عليها، حيث قال:
 
"وكون أحاديث الرجم متواترة المعنى قد صرح به غير واحد من المحدثين والفقهاء، كابن الهمام في فتح القدير، والألوسي في روح المعاني، والشيخ ولي الله الدهلوي في كتابه المعروف: (حجة الله البالغة".(13)
  
وتتبعت بنفسي أحاديث الرجم في الكتب المتداولة، فوجدت أنها مروية عن اثنين وخمسين صحابيا". ثم ذكر العثماني في جدول بأسماء الرواة صفحتين ونصف، ثم عقب بعدها بقوله:
 
"فهؤلاء إثنان وخمسون صحابيا رضي الله عنهم أجمعين، قد رووا حكم رجم الزاني الثيب، وهذا بالنسبة إلى تتبعي القاصر، ولا يبعد أن يضاف إلى هذا الجدول أسماء بعد تتبع أبلغ".(14)
  
وكلام العثماني مردود عليه من عدة جهات، من جهة العدد المعتبر في التواتر، سواء لفظا أم معنى، وقد ذكرنا الخلاف في ذلك عن العلماء والأصوليين.

أما أن الرجم مروي عن أكثر من خمسين صحابيا، فهناك أحاديث مما ذكرها حكم عليها بالضعف، وقد أوردنا في نقاشنا عن السنة والرجم، جُل الروايات التي ذكرت في الرجم، وناقشنا السند والمتن معا، فيرجع إليها.

علماء كبار ينفون التواتر عن الرجم:

والحقيقة أن معظم من قالوا بأن الرجم حد من الفقهاء ـ وهم جمهور الفقهاء ـ لم يدع أحد منهم التواتر اليقيني في مرويات الرجم، فهذا ابن قدامة المقدسي يقول: (قد ثبت الرجم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله في أخبار تشبه التواتر).(15)
  
ويقول الآمدي: "والسنة وهو رجم النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت بالتواتر، بل بطريق الآحاد. وغايته: أن الأمة مجمعة على الرجم، والإجماع ليس بناسخ، بل هو دليل وجود الناسخ المتواتر، وليس إحالته على سنة متواترة لم تظهر لنا أولى من إحالته على قرآن متواتر لم يظهر لنا تواتره بسبب نسخ تلاوته".(16)
  
ويقول الروياني الشافعي: "لم يثبت الرجم إلا بالسنة وأخبار الآحاد".(17)
  
ويعلق الطاهر ابن عاشور على أحاديث الرجم في موطأ مالك، فيقول: "هذه الأحاديث مرسل منها اثنان في (الموطأ)، وهي مسندة في غيره، فثبت بها وبالعمل حكم الرجم للمحصنين، قال ابن العربي: هو خبر متواتر نسخ القرآن. يريد أنه متواتر لدى الصحابة فلتواتره أجمعوا على العمل به. وأما ما بلغ إلينا وإلى ابن العربي وإلى من قبله فهو أخبار آحاد لا تبلغ مبلغ متواتر، فالحق أن دليل رجم المحصنين هو ما نقل إلينا من إجماع الصحابة وسنتعرض إلى ذلك في سورة النور، ولذلك قال بالرجم الشافعي مع أنه لا يقول بنسخ القرآن بالسنة".(18)
  
ويقول الشيخ علي الخفيف: "ويرى كثير من العلماء أن أحاديث الرجم متواترة رويت عن جمع من الصحابة منهم: أبو بكر وعمر وعلي وجابر، ثم تواتر ذلك عنهم فيما بعد، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لأثبته في المصحف. ولكن القول بتواتر هذه الآثار محل نظر، ولو كانت متواترة ما اختلف الناس فيما أثبتته ودلت عليه".(19)
  
فما ادعاه القائلون بأن أحاديث الرجم متواترة، لا يثبت، ولا يصح، ولا يسلم لهم به علميا، وإن ظل رأيا قال به علماء له قدرهم ومكانتهم، لكنه ليس رأيا قاطعا، ولا حجة ملزمة، وقد رأينا النقاش حول التواتر وشروطه، والخلاف في عدم توافر ذلك في أحاديث الرجم، وأنها آحاديث آحاد.

الهوامش:

1 ـ انظر: تحرير علوم الحديث للدكتور عبد الله الجديع (1/44،43).
2 ـ انظر: إيضاح المحصول من برهان الأصول للمازري ص: 426.
3 ـ انظر: البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي (3/299،298).
4 ـ انظر: البرهان (1/328-336) والتلخيص في أصول الفقه ص: 273 ـ 278.
5 ـ انظر: إيضاح المحصول ص: 426 ـ 432.
6 ـ انظر: العدة في أصول الفقه (3/857،856).
7 ـ انظر: شرح مختصر الروضة (2/89 ـ 93).
8 ـ انظر: نهاية السول شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول (3/84 ـ87).
9 ـ انظر: بيان المختصر وهو شرح مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه (1/363،362).
10 ـ انظر: فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت (2/142 ـ 144).
11 ـ انظر: إرشاد الفحول ص: 193،192.
12 ـ انظر: حاشية سلم الوصول لشرح نهاية السول على هامش نهاية السول (3/84 ـ 87).
13 ـ انظر: حجة الله البالغة (2/158).
14 ـ انظر: تكملة فتح الملهم بشرح صحيح الإمام مسلم لمحمد تقي العثماني (2/248 ـ 252) بتصرف شديد.
15 ـ انظر: المغني لابن قدامة (10/121) طبعة رشيد رضا.
16 ـ انظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/167).
17 ـ انظر: بحر المذهب للروياني (13/4).
18 ـ انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور (4/275).
19 ـ انظر: أسباب اختلاف الفقهاء لعلي الخفيف ص: 47.

Essamt74@hotmail.com