كتاب عربي 21

إعادة تحديد معالم المنظومة القديمة

1300x600
التحليلات السياسية للثورة العربية للقرن 21؛ صورة تبسيطية لما سمي بالمنظومة القديمة للحكم، فجعلت مكونها الوحيد هو الحزب الحاكم قبل الثورة.. في الحالة المصرية كان الحزب الوطني (حزب مبارك)، وفي تونس كان التجمع (حزب بن علي)، مثلما كانت جبهة التحرير في الجزائر ونظائر لهذه المنظومات في بلدان عربية أخرى.

بعد عشر سنوات من الثورة نجد أن هذا التحليل تبسيطي، إذ يغفل أن المنظومة القديمة ليست فقط منظومة الحكم التي سقطت، بل هناك منظومة تفكير شاملة لم تمسها الثورة بعد، ومكوناتها (أو حَمَلتها) ليست فقط من مكونات منظومة الحكم وشخصياته، بل هي تخترق من وصفوا بأنصار الثورة. إذ يتبين شيئا فشيئا أنهم جزء من المنظومة؛ لا لجهة الفائدة المباشرة من الحكم، بل لجهة التفكير الرافض للتغيير والتطور.

كل مكونات النخبة الفكرية والسياسية محافظة

في التبسيط الذي يهيمن على التحليلات، أن من عارض أنظمة الحكم السابقة هو ثوري ومناضل وتقدمي ولديه بدائل حكم أكثر مقبولية من الشارع، وهو مستعد لإنضاج هذه البدائل ثم التقدم على طريق المستقبل. بعد عشر سنوات نجد أن هذه المكونات ترفض التغيير وتتمسك بنمط تفكير ما قبل الثورة، ويستوي في ذلك اليسار بكل تكويناته والإسلاميون بكل فصائلهم السلفية والديمقراطية.

لقد كان هذا التبسيط نوعا من الشهادة أو الأوسمة التي أسندها هؤلاء لأنفسهم، واقتنعوا بها وفرضوها على التحليل، فنجوا من النقد ولكن حتى حين. فها نحن نراهم واقفين، حيث فاجأتهم الثورة فلم يستوعبوا مطالبها المادية والفكرية.

إحدى علامات هذا الجمود الفكري هو الحفاظ على التصنيفات السياسية القديمة إلى يمين ويسار والتصرف على أساسها، حيث لا يمكن التقاء اليمين واليسار في حكم واحد، مع جرعة عربية زائدة في هذا التصنيف المستورد؛ هي جرعة إقصاء وتناف متبادل بين من يصفون أنفسهم بالتقدميين ومن يصفون أنفسهم بتيار الهوية والأصالة.

وإذا كانت مصر تعاني الآن من حكم العسكر، وسوريا تعاني الحرب الأهلية، وتونس تعجز عن تكوين حكومة فعالة (رغم التقدم على طريق الديمقراطية الشكلية مقارنة ببقية الأقطار)، فإن ذلك يعود أساسا إلى هذه الشحنة المفرطة من التنافي التي تستند في جوهرها إلى قراءة مستنفدة للأفكار والمواقف. فلا التقدمي تقدمي فعلا وممارسة، ولا الرجعي تنطبق عليه مواصفات الرجعية. فالجميع رجعيون بمقادير.

لم يطرح التصنيف إلى يسار ويمين للنقاش، ولم تر مكونات النخبة الفكرية والسياسية أنه يمكن النظر إلى ما يجري حولنا من تطور فكري وسياسي أخرج العمل السياسي من قوالب التفكير التي خلقتها الثورة الفرنسية، وعاشت منه وشكلت به مشهد السياسة في العالم منذ قرنين أو يزيد. في العالم اختفت معالم اليسار الفكري كما اختفت الأحزاب الدينية، بل نجد حالات حكم يمين (بالتسمية الكلاسيكية) تحمي مكتسبات اجتماعية كما هو الأمر في الحالة الألمانية تحت حكم أنجيلا ميركل. وقد رأينا قبل ذلك حكم حزب العمال البريطاني يتخذ إجراءات ليبرالية للخروج من حالات جمود اقتصادي، بزعم فتح طريق ثالث.

لقد غيرت العولمة الاقتصادية الحدود وحركت الحواجز بين التكوينات السياسية الغربية، خاصة بعد طول جمود في التصنيف (يسار ضد يمين). وهذا التطور جاء نتيجة سرعة التبادل الاقتصادي والتواصل الفكري، خصوصا بعد سقوط جدار برلين والنهاية الوبيلة للتجارب الاشتراكية (المعسكر الشرقي القديم). لكن هذه الحواجز لا تزال قائمة بين نخب بلدان الربيع العربي وتعطل تقدمها ومراجعاتها الضرورية، بما يعيدنا إلى التأمل في مكونات منظومات التفكير والحكم التي تخرب الثورات.

مع الديمقراطية أو ضدها

في المشهد التونسي كمثال؛ نجد اليسار والنقابات تعمل على المحافظة على الوضع القائم أكثر من الإسلاميين الذين يدفعون إلى التغيير ليتخذوا لهم مكانا بعد طول إقصاء. وهو وضع مناقض لكل الأفكار والقيم التي يصف بها اليسار نفسه. على الأرض، نجد الموصوفين بالرجعية والمحافظة أقرب إلى روح التغيير. لم يغيروا شيئا مذكورا بعد، ولكن عندما نقرأ تحالفات اليسار الانتخابية في 2019 ومفاوضات تشكيل الحكومة التي يقودها حزب إسلامي (يمين محافظ حسب التصنيف القديم)، لا يمكننا إلا أن نصنف اليسار ونقاباته وأحزابه ضمن منظومة الحكم القديمة التي ترفض التغيير، أي المنظومة الرجعية.

سيقول البعض إن اليسار التونسي خسر الانتخابات وهو غير معني بتشكيل الحكومة، ولكن هذا رد مخل يتجاهل مواقع التأثير السياسي الفعّال من خارج الصندوق. اليسار التونسي (والمصري شبيه به) ليس قويا في عدده، بل قوي في مواقعه التي حازها تحت حكم ابن علي ومبارك في غياب الإسلاميين، ولذلك نراه مؤثرا ولو دون حضور برلماني وحزبي لافت. وهو حاضر في تشكيل الحكومة عبر نقاباته ومنظماته التي سيطر عليها ولم يسمح لغيره بالنفاذ إليها، بل يستميت في حمايتها كإقطاع خاص، بما يسمح بتصنيفه كجزء من منظومة قديمة تعاند مسار التغيير الذي فرضته الثورة.

لقد كان الفساد المالي إحدى العلامات الدالة على المنظومة القديمة، وكان مطلب تصفية الفاسدين مطلب الثورة، ونجد أن النقابة تنكشف كإحدى بؤر الفساد المالي والسياسي، ونرى ردة فعل النقابيين على من يقاوم الفساد في النقابة. إذ يرفضون الإقرار بفساد النقابيين، ويُعلون الصوت ضد القضاء ويهددون بتعطيل عمل المؤسسات (العمومية خاصة) بالإضرابات، راسمين خطوطا حمراء لكل من يفكر في محاسبتهم. وهو نفس السلوك الذي يمارسه الفاسدون من مكونات المنظومة القديمة.

هذا التطابق في السلوك بين طبقة المال الفاسدة (ركيزة حكم ابن علي) والنقابة (وسيلة تأثير اليسار) يجعل النقابة جزءا لا يتجزأ من منظومة الفساد، ويجعل اليسار الكامن داخلها فصيلا فاسدا يعاند الثورة ومطالبها، ويقف منها موقفا رجعيا (يمينيا بحسب التصنيف القديم). وهو ما يعيدنا إلى قراءة ضرورية ومختلفة حتما لما يجري وما ينبغي أن يكون.

الإسلاميون ليسوا مختلفين عن المنظومة

لم ينتج الإسلاميون خطابا جديدا ولا اختلفت ممارساتهم السياسية كثيرا عما كان يفعل التجمع. فهم يستعيدون في أغلب المحطات خطاب المظلومية، ويعملون (بجهل أو بعجز) على استدامة نمط الاقتصاد الفاشل الذي سار عليه حزب التجمع. ورغم أن الصندوق الانتخابي أعطاهم للمرة الثالثة موقعا متقدما في الحكم، متجاوزا بذلك ممارسات الإقصاء السياسي وأصحابه، إلا أنهم لم يقرأوا ذلك (حتى الآن على الأقل) كمطلب تغيير مرفوع إليهم عبر الصندوق من شارع متلهف إلى منظومة حكم صالحة (وهو نفس الصندوق الذي قدم الرئيس قيس سعيد كعلامة تغيير على رأس الدولة).

يتحجج الإسلاميون، وهم يشكلون حكومتهم، أن الصندوق لم يفوضهم تفويضا كاملا ليحكموا وحدهم ويقدموا بديلهم، لكن هذه الحجة مردودة. فالبديل لم يظهر في برنامج وما ظهر حتى الآن هو استعادة مشذبة لنظام ابن علي الذي استمر بعد الثورة، وهو ما يسمح لنا بالقول إن مقترحات الإسلاميين للحكم هي استعادة أخرى للمنظومة بوجوه جديدة.

من الإعلانات السياسية المنتظرة شعبيا لبدء التغيير في صلب مؤسسات الحكم تغيير القانون الانتخابي الذي صنعه رجال بن علي (هيئة بن عاشور 2011). لقد عدل برلمان (2014-2019) القانون وأبقى على أسوء ما فيه وهو الانتخاب على القائمات وتمكين أكبر البقايا وكان الإسلاميون يملكون أن يفرضوا تغييره لكنهم لم يفعلوا ونرى أن ذلك نتيجة فقر في التصورات وبناء البدائل وهي طبيعة تفكير منظومة الحكم البائدة.

ومن الإعلانات المنتظرة/ الغائبة؛ الحديث بشجاعة (ومسؤولية) عن بديل إما ليبرالي أو اجتماعي يرسم مسارا للمستقبل، ويتجمع حوله في هذا الاتجاه أو ذاك أنصار ومؤيدون. أما البقاء في وضع ملتبس متذبذب بين إجراءات اقتصاد ليبرالي واقتصاد شبه دولتي؛ فهو مرض المنظومة البائدة الذي أودى بها (الحقيقة أنه لا يمكن تصنيف الحالة التونسية بدقة فليس من السهل أو الصحيح القول بأن نموذج التسيير التونسي الحالي اجتماعي صريح أو ليبرالي صريح وإنما هو التذبذب بعينه)، وقد أورثته للنخب الجديدة.

نختصر القول: نحن نرى يسارا (في التسمية) يعيش من الفساد ويحميه، ونجد إسلاميين خائفين من كشف بديلهم أو عاجزين دونه، ونجدهم جميعا يلتقون مع نمط تفكير المنظومة البائدة وممارساتها، فيؤيدونها ولو دون وجوهها القديمة، بما يسمح لنا بتوقع استمرار الفشل في السنوات القادمة.

نحن إذا إزاء حالة فشل في التصورات وصناعة البدائل على ضوء الفكر السياسي المتجدد في أنحاء العالم، وهي نظريا مهمة النخبة الجديدة لكنها ليست كذلك في الواقع، بل هي نسخة مما سبقها، لذلك نراها نخبة لم تفهم شعبها ولم تقرأ مطالبه، فاستفادت من ثورته في تحسين مواقعها داخل منظومة فاشلة.

لقد جددت المنظومة جلدها بجلد معارضيها القدامى الذين يعانون من عجز في التفكير؛ زُين لهم أن يستولوا على المنظومة فاستولت عليهم (صورة أفعى الأنكوندا وقد التهمت فريستها وتهضمها الآن على مهل)، وفرضت على التحليل السياسي والعلمي أن يعيد تحديد معالم هذه المنظومة. وهو مشروع نقد جذري للنخبة وأدوارها وقد آن أوانه.