قضايا وآراء

فلسطين وذاكرة الشعوب

1300x600
مر شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الحافل بالذكريات الأليمة على الشعوب العربية مر الكرام، فلم تتذكر إلا ثلة قليلة أنه في الثاني من هذا الشهر عام 1917 تم اغتصاب فلسطين فعلياً بإصدار وعد بلفور المشؤوم، وفي التاسع والعشرين منه تم تقسيم فلسطين. وهو اليوم الحقيقي لنكبة العرب، ومن السخرية بمكان أن تختاره الأمم المتحدة التي أصدرت قرار التقسيم في نفس اليوم عام 1947 ليكون "اليوم العالمي للتضامن مع شعب فلسطين"!

في عام 1977 أعلن الأمين العام للأمم المتحدة في رسالته بهذه المناسبة "نؤكد من جديد ونحن نحتفل بهذا اليوم الدولى للتضامن؛ التزامنا بالتمسك بحقوق الشعب الفلسطيني، فالأمم المتحدة لن تتزحزح في التزامها تجاه الشعب الفلسطيني" ولم يقل لنا، كيف سيتم الاحتفال به! ولماذا لم يرجع حقوق الفلسطينيين في هذا الاحتفال، وما الذي يمنعه من تنفيذ التزامه كما يدعي! ولم يوضح لنا ما هي الوسيلة للتضامن مع الشعب الفلسطيني! وهل يحق للجهة التي مكنت الصهاينة من اغتصاب أرض فلسطين وانتزاعها من أهلها أن تتضامن مع الشعب الفلسطيني؟! إنه استخفاف بعقولنا من تلك المنظمة الدولية التي لم تنصف يوماً، منذ نشأتها الشعب الفلسطيني، بل هي مَن أضاعت حقوقه وأنشأت الكيان الصهيوني فوق أرضه.

ورغم أن هذا التضامن لن يعيد أرض فلسطين لأهلها الحقيقيين، إلا اننا لم نر فعلاً إيجابياً على الأرض يعبر عن هذا التضامن لا دولياً ولا عربياً، اللهم إلا رمز الكوفية الفلسطينية التي وضعناها على صورنا في وسائل التواصل الاجتماعي. أما الحكومات العربية المتصهينة، فقد أسقطت هذا اليوم من ذاكرتها فلم نسمع كلمة واحدة، أو نرى إشارة خاطفة أو تلميحاً من قريب أو من بعيد لذكرى ذلك اليوم المشؤوم على شاشات التلفزة، تذكر جيل النكبة بل والمسلمين جميعاً باغتصاب فلسطين، وتوضح لأبناء الأمة الإسلامية كيف أحتلت فلسطين، لتظل فلسطين حية في وجدانهم وذاكرتهم!

ويأتي هذا التجاهل المتعمد من قِبل الحكومات العربية المتصهينة، تمشياً مع سياسة التطبيع التي تنتهجها تلك الدول والتى أصبحت تخرج للعلن دون إستحياء، كما كان يجرى في الماضى، على شكل مباريات رياضية وحفلات غنائية، وزيارات وفود صهاينة لبعض الدول العربية وتدنيسهم للأراضي المقدسة في السعودية!

إن صناعة ذاكرة التاريخ، تتطلب بالضرورة إحياء المناسبات التاريخية في ذاكرة الشعوب، حلوها ومرها، وخاصة تلك التي غيرت مجريات التاريخ وحولت مسارات الأمم، منعاً للعبث في تاريخها وشحذاً لهمم الأجيال القادمة، وهذا ما تفعله كل بلدان العالم إلا البلدان العربية للأسف والأسى الشديدين..

لكن إحقاقاً للحق، فلا بد أن نذكر أنه لولا وجود مقاومة باسلة ورجال أشداء في غزة الصامدة، لطويت القضية الفلسطينية في دفاتر النسيان كما طويت من قبلها الأندلس، ونسيها المسلمون!

نحن نريد أن تظل القضية الفلسطينية، موقدة في صدور الشعوب العربية والإسلامية، لا تنطفئ جذوتها مع مرور الزمن وتقلب الأحداث، ومهما حدث من هرولة الحكومات العربية المتصهينة للتطبيع مع الكيان الصهيونى، فيجب أن تظل الشعوب العربية حافظة لذاكرتها وصمام الآمان لها لتكن السد المنيع لمرور التطبيع..

استطاع الكيان الصهيوني أن يجمع يهود العالم من الشتات، ويصنع كيانه على فكرة صناعة إحياء ذكريات تاريخية مؤلمة وقصص وروايات أغلبها زائفة، وهو يحاول بكل الطرق والوسائل تغيير معالم فلسطين وطمس رموزها التاريخية وتهويدها، بتغيير أسماء المدن والشوارع العربية واستبدالها بأسماء يهودية مع ربطها بمناسبات دينية ليثير الحمية الدينية ويعزز روح الانتماء لهذه الأرض..

ومن مساوئ الصدف أيضا أن يأتي يوم السادس من كانون الأول/ ديسمبر، اليوم الذي أعلن فيه الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" منذ عامين، اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، ليلحق بيومي تشرين الثاني/ نوفمبر السابقين، ويمر دون أن يلتفت إليه أحد، كما يمر يوم الثامن من هذا الشهر ذكرى الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 والتي كان من نتائجها اتفاقية أوسلو اللعينة التي أضاعت ما تبقى من حقوق الفلسطينيين، ليلحق بسابقيه في عالم النسيان!!

وهو ما يطرح السؤال: هل أصبحت الشعوب تتماهى مع حكوماتها في إسقاط ذاكرة التاريخ من الأمة؟!

من الغبن أن نظلم الشعوب العربية المقهورة والمغلوب على أمرها بمغبة النسيان أو التناسي، فهي تواجه سلطات مستبدة وقوى غاشمة تقوم بدورهما كحراس لحدود الكيان الصهيوني..

لكن رغم انكفاء الشعوب العربية على أنفسها وانشغالها في قضاياها القُطرية وصراعها مع حكامها المستبدين، إلا أنها لم تتخل عن القضية الفلسطينية، فهي حاضرة دائماً في ثوراتهم، ورأينا العلم الفلسطيني مرفوعاً في جميع الثوررات العربية، وتناغمت هتافات المتظاهرين المطالبين بإسقاط حكومتهم مع الهتافات بتحرير فلسطين، في سيمفونية واحدة لا نشاز فيها، وهنا يتضح مدى الفهم لدى المواطن العربي الذي ربط بين إسقاط الأنظمة الاستبدادية وتحرير فلسطين. فالعلاقة بينهما عضوية ومتداخلة معاً لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض، فلن تتحرر فلسطين إلا إذا تحررت الشعوب العربية من حكامها الفاشيين، وكلاء الصهاينة في المنطقة. لذلك كان أكثر المنزعجين من ثورات الربيع العربي والمعادين لها والمتآمرون عليها، هو ذلك الكيان الغاصب وأذرعته في السعودية والإمارات (مركز الثورات المضادة الذي تدار فيها كل المؤامرات على الأمة الإسلامية تحت إشراف الموساد).

ولك أن تقارن بين هذين المشهدين اللذين يتحدثان عن نفسهما بعد ثورة يناير: تسلق أحد شباب الثورة على جدران المبني المطل على نيل القاهرة أمام كوبري الجامعة وقفز حتى وصل إلى الطابق الـ19، حيث مقر السفارة الصهيونية، وأنزل العلم الصهيوني ورماه على الأرض، وسط فرحة وتصفيق وتهليل جموع المصريين الحاضرين، والذين احرقوا العلم في الحال. في هذا اليوم تم حصار سفارة الكيان الصهيوني بالقاهرة، مما أجبرها على الإغلاق واضطر طاقمها لمغادرة البلاد، في مشهد فاجأ الصهاينة وأذهل العالم كله..

أما المشهد الآخر، فهو للطالب الذي رفع العلم الفلسطيني في الإستاد الرياضي أثناء مبارة كرة قدم الشهر الماضي، فقبض عليه في الحال، وتمت إحالته للنيابة التي قررت حبسه!!

هذا هو الفرق بين مصر الثورة، ومصر الانقلاب، مصر الحرة ومصر الفاشية، وكذلك الحال في كل دول المنطقة التي تحكمها أنظمة ديكتاتورية. ولهذا يحرص الكيان الصهيوني على بقائها وعدم استبدالها بأنظمة ديمقراطية. فالعلاقة بين الأنظمة الاستبدادية والكيان الصهيوني علاقة عضوية أيضا. فهي في مقابل حماية كيانه، تستمد منه القوة في مواجهة شعبها الذي يثور عليها، وهذا ما شاهدناه جلياً في الثورة السورية وكيف أنه حمى السفاح بشار الأسد ومنع سقوطه، خوفاً من استبداله بنظام ديمقراطي يعمل على تحرير الجولان التي قدمها والده الطاغية حافظ الأسد هدية للصهاينة على طبق من ذهب..

إذن فلا عجب أن الكيان الصهيوني الذي يتفاخر بأنه واحة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، يساند النظم الديكتاتورية فيها، فهي واحة الأمان له وسر بقائه للأسف الشديد، ولولا هذه الحكومات المتصهينة لما رفع العلم الإسرائيلي حتى داخل فلسطين المحتلة ولما كان هنالك دولة تسمى إسرائيل!!