قضايا وآراء

الكَحُول!!

1300x600
بفتح الكاف وضم الحاء، تُعرف هذه الكلمة في مصر وتطلق على المالك المزيف الذي يحل محل المالك الفعلي في كافة الإجراءات الرسمية، والذي في العادة يستعان به ليتحمل مسؤولية مخالفتها وفق مناخ الفساد الذي يدير كل ركن من أركان البلد، فيكون ذلك "الكَحُول" رئيس مجلس إدارة الشركة التي تتولى المناقصات في المشروعات العامة، كما يكون مالك العقار في مقاولات البناء فيصدر باسمه تراخيص البناء الهدم وحركة الشراء وكافة الإجراءات القانونية الخاصة بالمقاولة. وهكذا، في أي تعامل يختار المستفيد الأصلي عدم الظهور الرسمي فيختار "كحولا" يحل محله في كل شيء عدا الحصول علي الربح أو حيازة أي من الممتلكات، ليحصل على ربح يسير لا يتناسب بأي وجه مع ما يلقى على عاتقه من التزامات أمام الجهات الرسمية وغيرها، وهو ما قد يودي به في كثير من الأحيان إلى غياهب السجون!!

يبدو أن "شغلانة الكحول" قد انتقلت بفضل الانقلاب في مصر إلى الساحة السياسية، لتكون أول تجربة كحول في المستوى الدولي.

لتتفهم ذلك عليك أن تتابع التقارير المتخصصة والتصريحات السياسية، وتعليقات ذوي الشأن على الاتفاق التركي الليبي لترسيم الحدود البحرية بين البلدين، وكيف أن قائد الانقلاب قد جعل من مصر أول بلد تقوم بدور الكحول بامتياز!!

إذ كيف يتطوع نظام بلد في تقويض نفوذه البحري والتنازل عن ثرواته المهولة، بمثل الاتفاق الذي استهل به قائد الانقلاب فترة حكمه في 2014 بترسيم الحدود البحرية مع قبرص اليونانية، والذي تلاه استيلاء قبرص بمشاركة الكيان الصهيوني على حقول غاز بمساحات شاسعة في البحر المتوسط قبالة دمياط، ثم أعلن الكيان الصهيوني بعدها عن إنشاء (خط أنابيب شرق المتوسط) والذي يقوم بموجبه بنقل الغاز إلى أوروبا، بحجم يقارب العشرة مليارات متر مكعب من الغاز سنويا.. وكأن الأمر مرتب بين "كحول" يوقع بالبيع ومالك يستفيد بكافة المغانم!

أتبَعَت مصر الانقلاب اتفاق تركيا وليبيا بوابل تصريحات معادية من جانب، ومن جانب آخر قررت استعجال الدراسات الفنية لإعلان اتفاق ترسيم الحدود بينها وبين اليونان كيدا في تركيا!! وهو ما يعد تنازلا وشيكا عن حقوق جديدة.

قد يقول البعض إن ترسيم الحدود البحرية هو أعقد أبواب القانون الدولي، وتتحكم فيه محددات كثيرة ربما لا تجعله تنازلا بقدر ما هو تقاسم للمنافع.. قد يكون ذلك صحيحا إن كان يمثل حالة وحيدة.. لكنه أصبح (في ظل الانقلاب) أسلوب حكم وسياسات دولة، فقد تلاه اتفاق لا يقل غرابة بين مصر والسعودية بالتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير؛ جعل من مياه المضيق مياها دولية بعد أن كان المضيق تحت سيطرة مصرية كاملة، كونها مياها إقليمية، وهذا بالطبع لا يستفيد منه سوى الكيان الصهيوني لتفكيره بجدية في إنشاء قناة تربط ميناء أشدود بميناء إيلات لتكون بديلا عن قناة السويس!! وما زال اتفاق التنازل ساريا بالرغم من صدور حكم تاريخي من القضاء الإداري ببطلان الاتفاقية وأحقية مصر في الجزيرتين.

وفي جريمة لا تقل فداحة عما ذكرنا، تعجل قائد الانقلاب في 2015 بتوقيع اتفاقية المبادئ التي أهدرت حقوق مصر التاريخية في مياه النيل والإقرار بأحقية إثيوبيا في بناء سد النهضة، والتي وقعها السيسي مع رئيس وزراء إثيوبيا والرئيس السوداني المخلوع عمر البشير ثم خرج مبتسما ابتسامة المنتصر! ثم هو نفسه في 2019 الذي أقر بخطورة سد النهضة على حقوق مصر في مياه النيل، متهما ثورة يناير بأنها جرأت إثيوبيا على ذلك، وكأن الثورة هي التي وقعت الاتفاق في 2015 وليس هو!!

في كل مرة يقوم فيها قائد الانقلاب بهذه التنازلات، تجد في الخلفية الكيان الصهيوني كمستفيد مباشر ومالك مستتر، يدعم وجود منظومة الحكم الحالية في مصر بكل علاقاته وتواصلاته وتدخلاته المباشرة وغير المباشرة. ولا يوفر قائد الانقلاب جهدا في تقديم مزيد من خطوات التنازل التي لا تصب إلا في مصلحة الكيان الصهيوني، والتي لم يجرؤ عليها من سبقه من الكنوز الاستراتيجية أو داعمي السلام أو قادة النضال الحنجوري.

اتفاقات تتوالى تفرط بها مصر الانقلاب بمزاياها الحالية وفرصها المستقبلية وحقوقها التاريخية.

أخيرا.. فالكَحُول الذي ابتدعته بيئة الأعمال في مصر كحيلة لزيادة الأرباح مع تقليل المسؤولية؛ إنما يصنع مالكاً مزيفا ليس له في العير ولا النفير. أما في حالة مصر الانقلاب، فقد فرط نظامها الغاصب في ما تملك البلاد حقيقة.. وأعطى عطاء من لا يملك لمن لا يستحق.