كتاب عربي 21

البَشَرُ وغَايةُ الإبْداع

1300x600

إن غاية البشرية وهدف نضالها منذ ما قبل إنسان الكهوف ومنه إنسان كهف لاسكو وحتى اليوم، أن ترقى بحياة الجنس البشري، وتتغلب على الطبيعة في محاولات لإخضاعها وفك رموزها والسيطرة عليها باكتشاف قوانينها والعمل من خلال تلك القوانين. 

 

الإنسان ومسار التغيير

والبشرية، كي تصل إلى نتائج إيجابية في سعيها ذاك، تضع تجربتها ومعارفها في قوانين وقواعد وقيم وتروي هذا النبت الذي يتنامى جيلاً بعد جيل بتوارث الخبرة وإغنائها ومدِّها بماء المنطق كلما احتاج الأمر إلى ذلك، وترسخ جذوره يوماً بعد يوم، متصاعدة في إقامة صرح حضارتها.. سواء أكان ذلك تسامياً بغرائز الفرد ينعكس غنى في الروح وتقدماً في معارج الرقي عن طريق السلوك الفردي والجمعي، أم بناء لمقومات الحضارة وركائزها على الصعيدين المادي والمعنوي في أرض البشر بإبداع ينسل من إبداع أو يستلهم الواقع.

لقد أوجدت البشرية السحر والخرافة واللغة والدين، وأعلت مكانة القيم والعادات والأعراف والتقاليد، وسنَّت القوانين والشرائع، وصانت معارفها وطورتها، وربطت حاضرها بماضيها عن طريق تنمية تيار الخبرة واستمرار اتصاله.. فعلت كل ذلك في سبيل الحفاظ على الحياة وإغنائها ومن أجل حفظ النوع البشري والارتقاء به وتخفيف أعباء المعيشة عليه.

 

الإنسان المبدع بحكم تكوينه ومهامه، أديباً كان أم فناناً، يقوم بدور طليعي ريادي يتطلب منه أن يخوض مخاطر الكشف، وأن يتحمل نتائج مخالفته للمعتاد والمألوف.


وتحمَّل العنصر البشري قسوة العصور الأولى ومرارتها وآلامها، وقطع مراحل تحوّل جنسه وتطوره متنقلاً من مجتمع الصيد والقنص والرعي إلى المجتمعات الزراعية والحضَرية والصناعية الأرقى حتى وصل إلى مرتبة الكائن الإنسان الذي نراه اليوم، ورسَّخ قدمه في الوجود كأفضل الكائنات وأرقاها. وهو بما يملك من عقل ومنطق واستعدادات وملَكات خاصة وقدرة على الفهم والاستفادة من التجربة، مؤهل لأن يكتشف أهمية التغيير وضرورته، والرغبة في تجديد أنماط الحياة باستمرار، بدءاً من تغيير الذات باتجاه الأفضل. 

ومع هذه الرغبة، رغبة التغيير باتجاه الأفضل، بدأت مسيرة تلك العلاقة الجدلية الحية بين الفن والأدب من جهة وبين الفرد والجماعة من جهة أخرى، ضمن إطار ومعطيات اتصالهما المباشر بالحياة والطبيعة والكون.. تلك العلاقة التي تعبِّر عن حاجة حيوية لدى الأفراد لخوض تجربة واكتساب خبرة وتطويرهما مستفيدين من رصيد خبراتهم وخبرات الأجيال التي سبقتهم. ويبقى من غاياتهم واهتماماتهم نقل حصيلة تلك التجربة وخلاصة تلك الخبرة إلى الجماعة.

 

الإبداع استجابة لحاجة الجماعة

وأرى أن علاقة الوصل والاتصال بين ما ينتجه الفرد من أعمال إبداعية وبين حاجة الجماعة وواقعها ومعاناتها وتطلعاتها، علاقة لا يمكن فصلها عن الواقع، مع الإبقاء على سلامة الأفراد وقيمتهم ومستوى إبداعهم وسلامة البنية الاجتماعية وازدهارها.. وكل المحاولات التي بذلت لإحداث ثغرة بين منابع الإبداع السليم وأهدافه لم تفد أصحابها فضلاً عن عدم إفادتها للبشرية.
 
والمجتمعات تدين في العادة مَن يترّفعون عن وضع إنتاجهم الإبداعي في خدمتها وتزوَرُّ عنهم، ويؤثر ذلك الموقف الاجتماعي في أولئك وفي قدراتهم على الإبداع. وقبل تلك الأحكام والاتهامات التي أطلقها كثيرون على حركة الفن للفن، قبل هذا بزمنٍ طويل، حكم رجال الفكر والأدب من العرب والمسلمين على هذه الانتحاءات الفردية أحكاما مستمدّة من العقيدة الواضحة التي اهتدوا بهديها/الإسلام، وقد استمد أحدُ الصحابة من مُبلّغها للبشرية القول: "علمٌ لا يُقال به ككنز لا يُنْفَقُ منه"، وقال العلاّمة ابن خلدون 1332 ـ 1406 م في مقدمته الشهيرة: "من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثاني" أي أشرك بالله سبحانه وتعالى. 

 

الالتزام، كما أفهمه، اختيارٌ تقرّره الإرادة الحرة الواعية المدرِكة لدوافع الاختيار ولتبعاته، واقتناعٌ يمليه العقل والمنطق ويطمئن إليه القلب وتركن في ظله النفس فتعمل وترضى، وهو نوع من انتماء للناس في واقعهم


وهكذا جاء حكم الأوائل، بتلخيص ابن خلدون هذا، قاسياً جداً على أولئك الذين يفصلون بين المعرفة وغاياتها وأهدافها الإنسانية المتصلة بالحياة والناس، بين الكلمة وأغراض القول ودوافعه وأسبابه، بين الفكر وغايات كل من التفكير والتعبير، بين الكائن البشري وخلاصة تجربته ومعاناته وحدسه وإيمانه وكشفه الذي يُصَبُّ في إبداع، بين الحياة وتفاعل قدرات الأحياء فيها مع تراث الخبرة الإنسانية وتاريخها.. 

وقد جاء حكم الأوائل مستمداً من قيّم عقيدة الأمة ومقوماتها، ملتصقاً بالمعرفة وأهدافها وغاياتها الإنسانية. والمعرفة التي تحدث عنها الأوائل تشمل فيما تشمل الأدب والفن بكل مجالات الإبداع فيهما.. فمفومها واسع، وفروعها تتصل بكل ما يبصِّر الإنسان بأمور دنياه وآخرته، وبما ينفعه ويجنِّبه الألم والحاجة ويمتعه ويفيده ويمكّنه من استخدام طاقته أفضل استخدام في سبيل خيره وخير غيره وخدمة الحياة، وبما يجنبه وغيرَه الشر والضرر والمحن.

 

المعرفة التزام


وطرح أمر المعرفة وأهدافها على هذا النحو التزامٌ أرغب في توضيح مفهومي له وفيه.. فالالتزام، كما أفهمه، اختيارٌ تقرّره الإرادة الحرة الواعية المدرِكة لدوافع الاختيار ولتبعاته، واقتناعٌ يمليه العقل والمنطق ويطمئن إليه القلب وتركن في ظله النفس فتعمل وترضى، وهو نوع من انتماء للناس في واقعهم. وأجد من نَفَل القول أن أقول: إنه يختلف عن الإلزام الذي هو إجبار وإكراه يفرضه آخر من خارج الذات، أو تمليه عليها نفسٌ فاسدة وإرادة حاكمة وانتسابات مُمْرِضٌ ومريض فتدخل الذات ميدانه خوفاً أو طمعاً. 

والالتزام بحكم كونه طوعياً ينبع من إرادة حرة ويمليه وعيٌ واقتناع وإيمان، لا أراه يعني بالضرورة التزاماً بمواقف السلطة وآرائها وتوجيهات مؤسسات حاكمة أو آمرة أو مخطِّطة وموجهة للإنتاج الإبداعي، هذا إن لم يعنِ وقوفاً ضد ممارسات مغلوطة ومؤذية تقوم بها بعض السلطات والأجهزة، وتؤدي إلى جرح مشاعر المبدع قبل سواه فتدفعه إلى اتخاذ مواقف ضد الاستهانة بحقوق الناس وكراماتهم واحتجاجاً أو اعتراضاً على وضع قائم. وهكذا يكون الالتزام وعياً وإنتماءً إلى موقف وسلوك ويكون الهدف من ذلك الحفاظ على القيم وخدمة الناس والارتقاء بهم والمساهمة في نقلهم من واقع سيّء معترَضٍ عليه إلى واقع أفضل منشود، يراه صاحبُ الإبداع ويحرص على أن يضع الآخرين فيه وفي صورة اقتناعه واختياره ورؤاه، حرصاً منه عليهم وإخلاصاً منه لهم. 

والإنسان المبدع بحكم تكوينه ومهامه، أديباً كان أم فناناً، يقوم بدور طليعي ريادي يتطلب منه أن يخوض مخاطر الكشف، وأن يتحمل نتائج مخالفته للمعتاد والمألوف.. وعلى هذا فإنه يرى عيوب الواقع ويفنِّد أسبابها أو يوجه الاهتمام إليها ويجسد أو يكتشف أو يبدع الأشخاص أنماطاً أو غير أنماط، والعلاقات والسلوك وأساليب التعامل مع الناس والحوادث والأشياء والكون، بقصد إقامة عالم أمثل يكون من وجهة نظره أليق بالإنسان وأجدر به، أو يعمل على كشف عيوب الواقع المعيش وعيوب الأشخاص والعلاقات والنظُم بغية التحريض على تغيير المعايير وقيم التعامل وأساليبه بما هو أفضل وبما يجعل الحياة أكثر إمتاعاً وثراء وإفادة وأكثر قبولاً ولياقة بأن تعاش.. ويصبّ قناعاته تلك في عناصر إبداعه، ويحشد طاقته ليكون مؤثراً أو فاعلاً في الناس الذين يتوجه إليهم ليعيد تشكيل آرائهم ومواقفهم وقناعاتهم أو لكي يحرّضهم على تغيير تلك المواقف والقناعات بالاتجاه الذي يريد، مُلمِّحاً أو مصرِّحاً بوجهة نظره التي يريد لهم أن يتبنَّوها.