مقالات مختارة

طرق السيسي وجسوره والتغيير الوزاري

1300x600

«ما رأيك في هذا الجسر؟»، التفت المرشد السياحي إليَّ من مقعده الأمامي في السيارة الشيفورليه موديل عام 1958، التي أُعيد إصلاحها وتأهيلها مرات لا تحصى طيلة عقود قضتها قسرا فوق عمرها الافتراضي، بما يتخطى أفضل أماني شركة «جينيرال موتورز» وحساباتها، في خدمة فرضتها ظروف الحصار القاسي والظالم. كنا نقطع الطريق عائدين من العاصمة الكوبية هافانا، بعد جولة سياحية سريعة لأهم معالمها، إلى شاطئ براديرو، وكان الدليل يشير فوقنا إلى جسر معلق فوق الطريق السريع الذي يربط المدينتين، الذي بدا -للأمانة- جيد الرصف معتنى به.


المهم أن ابتسامة عابثة شيطانية كانت ترتسم على وجهه، ما أشعرني بأن السؤال ليس بريئا تماما، وأن ثمة فخا أو خدعة وراءه، لذا لم أجد بُدّا من التدقيق في هذا الجسر ولم أكن لأحتاج لذلك، إذ لم ألبث أن لاحظت أنه إذ يربط بالفعل بين جانبي الطريق، إلا أنه يفتقر إلى مطلع أو منزل معبدين يسمحان باستغلاله، وإذ أعربت عن ملاحظتي تلك وعجبي للدليل، فقد أجابني ضاحكا ملء شدقيه: «لقد كانت كوبا أمريكا صغيرة، وكان كل شيء يصل إلينا مباشرة بعد أن يظهر في فلوريدا. كانت البنية التحتية عظيمة، وشبكة الطرق والجسور شبه مكتملة منذ ما قبل الثورة. قد ترد عليّ قائلا إن ذلك من قبيل استغلال الغرينغوز (الأمريكيين) لتسهيل مصالحهم وقضاء متعهم. يجوز، ولكن لنتفق على أن تلك كانت المحصلة والفائدة، وإن تحققت بصورة عرضية؛ فلما انتصرت الثورة وجاء كاسترو، طق في أذهانهم أنه يتعين عليهم أن يصنعوا شيئا، أن يتركوا بصمتهم، فبنوا تلك الجسور على طول الطريق، وها هي كما تراها، بلا مطالع ولا منازل». ثم صمت قليلا قبل أن يعلق في مرارة (حقيقية لا متخيلة من قبيل التعبير الأدبي من ناحيتي): «وها نحن ذا لم نزل نحاول أن نعرف من أين نصعد إلى هذه الجسور، وإلى أين تؤدي، قرابة الستين عاما الماضية».


دائما ما أخشى الحصادات المريرة في منطقتنا المباركة في العالم، وتلح عليّ، فنحن روادها بلا منازع، تأتي بعد مقدمات من التهليل والتطبيل المتحدي النزِق. حضرتني حكاية الجسور الكوبية هذه وأنا محشورٌ في سيارة على جسر 6 أكتوبر في القاهرة، في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وإذ أتطلع أمامي لا أرى سوى صفٍّ من السيارات على مدى النظر، لا يتحرك، وإذ بالسائق الدمث يحدثني مفاخرا عن الطرق والجسور الجديدة «اللهم صل على النبي» التي يبنيها السيسي في كل مكان، وكيف أنها ستجعل من مصر جنة، وقبل ذلك بعام أخبرني السائق نفسه، بأن الملك سلمان، «اللهم صل على النبي» أيضا، آت في زيارة لمصر، وأنه سيجلب معه استثماراتٍ بالمليارات، ستجعل من مصر واحة من الرخاء. على الرغم من يأسي وشعوري الملازم باللاجدوى، إلا أن الغيظ غلبني فرددت عليه: «من الواضح فعلا أن شبكة الطرق الجديدة هذه سهلت الحياة بالفعل، بدليل أننا وقوفٌ لم نتحرك بالكاد سوى مترين في هذا الوقت المتأخر». صمت؛ وخيرا فعل، فقد كان يستطيع أن يقصفني ببطارية من الردود المعادة والممجوجة من عينة أن الرجل استلم بلدا خربا، وليكن الله في عونه، ومن الملاحظ أن الذين يقولون ذلك، هم أولئك الذين كانوا يرون من قبل أن مباركا لم يقصر، وما الذي بيده مع بلد استلمه خربا بعد سلسلة من الحروب، وما الذي يستطيعه مع شعب قذر ضائع كهذا.


فالشاهد إذن، أن كلا من الضباط استلم بلدا خربا، والمشكلة الأساسية في هذا الشعب رديء الخامة، ولا يتكرم أحدٌ فيخبرنا متى خرب هذا البلد، ومن المسؤول عن ذلك؟


الأهم من ذلك، أن أحدا لا يجيبنا ما الغاية من هذه الطرق والكباري، ولا إلى أين تؤدي بدورها، ولماذا لا نشعر بها في حياتنا اليومية؟ كثيرا ما أجلس مع أشخاصٍ في مصر لا يلبث الواحد منهم أنه يهاجمني بجملة من الصور لطرق معبدة حديثا، ليشهدني كيف أن السيسي والجيش، «اللهم صل على النبي»، يمدون الطرق ويشيدون، إلا أن أحدا منهم لا يخبرنا إلى أين تؤدي هذه الطرق؟


ثم يكثر اللغط حول الحكومة والوزراء، فنحدس بأن تغييرا وزاريا مرتقبا، وأن تلك التحركات المكشوفة ليست إلا تمهيدا، ولا يلبث التغيير الوزاري أن يحدث، مع لمسة سيساوية فكاهية، إذ نجد أن بعض الاختصاصات ضمت لوزير آخر، كالاستثمار لرئيس الوزراء مثلا، وكل ذلك يستدعي إلى الذهن مشهدا عبثيا من «ضيعة تشرين»، حين يقوم المختار بتغيير الوزراء امتصاصا للغضب. السؤال هو: إلى متى يستمر هذا العرض الهزلي؟
الكل في مصر يعرف، ويعرف جيداً من دون شبهة، أن النظام كان ولم يزل نظاما رئاسيا بتطرف، خاصة في مرحلته السيسية، حيث يصر على الإمساك بكل الخيوط، ولا توجد أي مؤشرات على كونه يسمح بأي استقلالية للوزراء (باستثناء الداخلية وأجهزة الأمن ربما)، وما الوزراء إلا منفذون لتوجيهاته، فله القرار والاختيار وعليهم الخطوات التقنية لتنفيذ تلك القرارات أو الرؤى. وهنا تكمن المشكلة:

فمصر، أرضا وشعبا وبلدا، خاضعةٌ لتصورات شخصٍ شحيح المعرفة سقيم الخيال محدود الذكاء معتل المفاهيم، شخص لا يتورع أو يتردد في أن يقول، أو بالأحرى يعترف بأن أكثر من ربع مشروعاته، لم يكن لينفذ لو أنهم قاموا بدراسة جدوى، غير مدرك أن ذلك يشكل دليل إدانة له ولمشروعاته. ولعل إدراك طبيعة هيكل السلطة والنظام، هو ما يفسر عدم اكتراث السواد الأعظم من الناس، الذي يشكو من غلاء الأسعار ورداءة الخدمات، فضلا عن تراجعها بهذه التغييرات التي يعرفون جيدا كم هي شكلية، ولن تعني الكثير أو ربما أي شيء. كما بات الكثيرون يدركون الآن أن جل تلك المشاريع تمت دون دراسة لخلق الانطباع «بأن أشياء كثيرة وكبيرة تحدث» ولرفع الحالة المعنوية، كما اعترف بذلك السيسي في ما يخص تفريعة قناة السويس الجديدة، وأن أحد الأغراض الأساسية لهذه المشاريع هو إثراء الجيش وشركاته، وإرضاء أكبر عدد ممكن من ضباطه في زمن قياسي، كونهم يشكلون الدعامة الأساسية للنظام، وحزبا من الناحية الفعلية.


لقد أصبح اللعب في مصر على المكشوف، ولا يعلل الناس صبرهم سوى بعجزهم أمام القوة الغاشمة وما يرونه (عن صواب أم باطل) من غياب البدائل، وهم يرون فشل النظام في الاختبارات المصيرية، وعلى رأسها حتى الآن مياه النيل، بسبب خيارات كارثية يتحمل السيسي مسؤوليتها منفردا، وإن كان لا يعييه أن يجد دائما أكباش فداء، وها هو الآن يواجه خصما عنيدا وشرسا، وأكثر حنكة ودراية سياسية، فضلا عن كونه يعرف ما يريد جيدا، متمثلا في أردوغان مما لا يتسع له المجال هنا. السؤال الآن بات كيف ومتى ينتهي هذا العرض الهزلي البائس؟

 

(القدس العربي اللندنية)