لا يمكن مقاربة أزمة نظام بشار
الأسد الاقتصادية بقراءات وتحليلات تقنية ذات طابع اقتصادي بحت، كون جذر الأزمة سياسي بامتياز، ويتعلق بطبيعة النظام المتوحش نفسه والسياسات التي اتبعها خلال العقود الخمس الماضية، كما الخيار الأمني العسكرى الذي تبناه تجاه
الثورة السورية العظيمة، وصولاً إلى استقدام الغزاة ورهن البلد كلها لهم مقابل بقاء النظام في السلطة شكلاً وبدون سلطة فعلية، على طريقة سلطة أوسلو في فلسطين والتي يصفها صائب عريقات دائماً بسلطة بلا سلطة، علماً أنها كانت دوماً مثار سخرية الآلة الدعائية للنظام السوري وحلفائه في الحشد الشعبي الإعلامي؛ قبل أن تتحول السلطة إلى حليف لهم على خلفية موقفها المعادي للثورات العربية الأصيلة واصطفافها إلى جانب الثورات المضادة في
سوريا، كما في طول العالم العربي وعرضه.
أسس حافظ الأسد نظاماً متوحشاً اعتمد الاشتراكية كخيار اقتصادي لتسهيل سيطرة وتغوّل السلطة على المجتمع والبلد بشكل عام، لكن اشتراكية حافظ لم تكن صارمة تماماً، فتركت حرية نسبية لقطاعات اقتصادية صغيرة ومتوسطة، تحديداً للكتلة الشعبية الكبرى في دمشق وحلب نظراً لتاريخها التجاري العريق ولإشغالها بنفسها وحياتها وضمان ابتعادها عن السياسة. وتمثلت المعادلة بحفظ وصيانة مصالح تلك الكتلة الكبرى مقابل القبول بهيمنة النظام، بل وجوده بحد ذاته.
الأسد الأب المجرم، ولكن المحنك أيضاً، حرص على إبعاد
العائلة- الطائفة الحاكمة بشكل عام عن الاقتصاد، مقابل تحكمها وهيمنتها التامة على السلطة في أبعادها السياسية الأمنية والعسكرية، وسيطرة الدولة (أي النظام) على المرافق الكبرى، بل على حركة الاقتصاد كله في أبعاده المختلفة وفق النظام الاستبدادي الاشتراكي سيئ الصيت.
هذا مثّل بالتأكيد سببا بل جذّر الأزمات الاقتصادية المتعاقبة للنظام حتى قبل الثورة، كنتاج طبيعي للاستبداد والاشتراكية الأحادية، وتحكم السلطة التام بالقطاعات الإنتاجية الكبرى وقمع الحريات الاقتصادية، وتكبيل أيادي وإبداعات الشعب العظيم، علماً أن البلد كان يعيش حالة نهوض وانتعاش اقتصادي بعد الاستقلال، زمن الحكم المدني الديمقراطي قبل أن يصل نظام البعث ثم عصابة الأسد للسلطة.
بشار الصغير ورث طبعاً عن أبيه الاستبداد والإجرام والنظام المتوحش في أبعاده المختلفة، السياسية الاقتصادية والأمنية والاجتماعية، لكنه لم يرث الحنكة والتجربة. وعندما باشر الإصلاحات الاقتصادية قام بخصخصة ما أمّمه النظام لصالح العائلة الحاكمة التي تصرفت كملكية وراثية في نظام جمهوري، وجرى تقاسم الاقتصاد الجديد بين أجنحة العائلة. وهنا بدأت تحديداً
أزمة رامي مخلوف الذي كان مجرد واجهة وأجيرا لا شريكا لآل الأسد، تماماً كرجل الأعمال محمد حمشو وآخرين أقل شاناً، والأرباح كانت تذهب للعائلة مع نسبة لمخلوف وحمشو، طبعاً بينما الضرائب والرسوم فقط للدولة، أو النظام بالأحرى، لإحكام قبضته على السلطة، بمعنى أن الاقتصاد كان منهوباً ومجيّراً لصالح فئة أو عصابة محددة لا الشعب السوري كله.
لذلك لم يؤد الانفتاح والإصلاح إلى نتائج جدية أو نهوض عام في ظل هيمنة العائلة على الاقتصاد الجديد (الاتصالات، البورصة، البنوك الخاصة، السوق الحرة)، وحتى المشاريع الصناعية والزراعية الكبرى خارج نطاق هذه القطاعات كان رامى مخلوف شريكا، أو يفرض نفسه كشريك فيها لصالح العائلة- العصابة الحاكمة طبعاً.
عندما اندلعت الثورة التي كانت مسألة وقت فقط، كون حكم آل الأسد ليس سوى جملة اعتراضية في تاريخ سوريا العريق والممتد، اتبع النظام الحل الأمني في مواجهتها منذ اليوم الأول. قال رامي مخلوف نفسه إن العصابة ستقاتل حتى النهاية دفاعها عن مصالحها (مستجدياً الدعم الإسرائيلي والغربي عبر مقولته الشهيرة إن أمن النظام من أمن إسرائيل). وهنا تم ابتداع قاعدة الأسد أو نحرق البلد، حيث جرى قتل مليون مواطن وتشريد نصف الشعب وإحراق نصف البلد تقريباً. وبناء عليه لم يبق مكان ولا مجال للاقتصاد بمعناه العلمي والعملي الصحيح والدقيق.
ليس بعيداً عن قاعدة الأسد أو نحرق البلد جرى تسهيل ظهور وتقوية تنظيم داعش لإحراق ما لم يستطع النظام إحراقه، وابتداع قاعدة فرعية أخرى مفادها الأسد أو داعش. وبنفس المنطق سلّم النظام مناطق واسعة
لتنظيم بي كا كا السوري لإضعاف وقهر الثورة، وابتزاز واستنزاف تركيا لمنعها من تقديم الدعم للثوار. بي كا كا استقدم الاحتلال الأمريكي بذريعة محاربة داعش، صنيعة النظام نفسه، علماً أن مناطق سيطرته تضم الثروات الطبيعية والزراعية من نفط وقمح وقطن، أي أنها تمثل سوريا المفيدة فعلاً، ما أضعف الاقتصاد وأفقده مقومات وركائز أساسية عديدة. وكل هذا جرى من أجل احتفاظ النظام بالسلطة، وعدم تنفيذ مطالب الشعب الثائر في الحرية والكرامة والعدل في دولة مدنية ديمقراطية لكل مواطنيها.
في المنطق السلطوي الضيّق نفسه، اعتبرت إيران مناطق النظام بمثابة سوريا المفيدة لها ضمن أطماعها الاستعمارية، والتي أسماها الأسد فيما بعد "سوريا المتجانسة". وبهوس الهيمنة والسيطرة، ومع التخلي عن الثروات الاقتصادية لبي كاكا والاحتلال الأمريكي، اضطرت إيران لمساعدة النظام وتقديم الدعم المالي له، ليس فقط من خزائنها (30 مليار دولار تقريباً)، وإنما من ثروات الدول العربية التي تحتلها. وهكذا تم تجيير الاقتصادين العراقي واللبناني لصالح نظام الأسد وإبقائه على قيد الحياة.
العقوبات الأمريكية على إيران أضعفت اقتصادها، ثم ثارت الشعوب العربية ضد الاحتلال الإيراني وهيمنة عملائه وأدواته، ففقد النظام الرئة بل الرئات التي كان يتنفس بها إيرانياً ولبنانياً وعراقياً؛ وساعدته على البقاء طوال السنوات الماضية.
رغم ما
فعلته إيران أمنياً واقتصادياً، إلا أنها عجزت فعلياً عن حماية النظام الذي كان على وشك السقوط في العام 2015، فاستنجدت بالاحتلال الروسي مقابل تحمّل تكاليفه وأعبائه الاقتصادية، وعندما عجزت عن الوفاء بوعودها بحث الروس عن التعويض عبر الاستيلاء على مقدرات الدولة السورية، أو بالأحرى ما تبقى منها، فأدّى ذلك إلى مزيد من الإنهاك للاقتصاد المنهار أصلاً.
المعطيات والعوامل السابقة تفاعلت فيما بينها كي يصل النظام فعلاً إلى حافة الانهيار الاقتصادي، حتى قبل
قانون قيصر "المدمر" الذي أجَّل وماطل فيه الرئيس السابق باراك أوباما لسنوات على مذبح الاتفاق النووي سيئ الصيت مع إيران، ثم الرئيس الحالي دونالد ترامب آملاً في الانسحاب وتفويض روسيا للسيطرة على سوريا، مع ضمان المصالح الأمريكية والإسرائيلية طبعاً.
في كل الأحوال كانت نهاية النظام الاستبدادي الفاسد والمتوحش وما زالت حتمية ومسألة وقت فقط، والانهيار الاقتصادي هو أصلاً نتيجة عيوبه الذاتية والبنيوية، كما نتيجة الحل الأمني العسكرى في مواجهة الثورة التي أسقطته نظرياً منذ اليوم الأول لها، علماً أن حلفاءه راهنوا مراهنة خاسرة على نظام ساقط لا أمل له في النجاة؛ وفق حقائق ووقائع التاريخ السياسة والاقتصاد أيضاً.