هذا العنوان مستقى من عنوان المقال التاريخي لـ"إحسان عبد القدوس" بعد ثورة يوليو 1952، وعنوانه "الجمعية السرية التي تحكم
مصر"، وقد ألح على خاطري وأنا أتابع حملة تمزيق الملابس بين وزير الدولة للإعلام
أسامة هيكل، وبين "أدوات" هذه الجمعية، والتي فاجأت كثيرين وكشفت خللا داخل نظام الرجل الواحد، الذي يعتقد أن مصر أسرة صغيرة يمكن لشخص واحد أن يحكمها!
كانت البداية بالنسبة لي تغريدة من أحد "الثعالب الصغيرة"، المعروف لجميع زملائه بارتباطاته الأمنية، ولم أكن أدري أنه تعبير عن حملة إبادة ضد الوزير، تعرى فيها القوم، وعروا خلالها النظام الحاكم، وكشفوا عن أزمة "تضارب المصالح"، في غياب السلطة، حيث يتعامل كل منهم في موقعه على أنه السلطة. فالرجل الواحد ولو كان "سوبرمان"، لا يمكنه أن يحيط بتفاصيل الأشياء، وإذ بدا الوزير واقفاً على أرض صلبة، لصلته بهذا "الرجل الواحد"، فظني أنه الطرف الأضعف هنا، مهما كانت ارتباطاته الوظيفية، فقد نجحت هذه الجمعية السرية التي تحكم
الإعلام المصري في التخلص من "ياسر رزق" الذي وصفته أنا بكليم
السيسي، ولا يمنع هذا من أن تكون قد استخدمت السيسي نفسه في عملية التخلص منه!
كانت البداية بما ذكره "هيكل" من أن 65 في المئة من الشعب المصري لا يقرأ الصحف ولا يتابع الفضائيات، ولا شك أنه كان كريماً وهو يقول ذلك لأن الحقيقة هي أن النسبة تتجاوز هذا بكثير. وتقارير الجهاز المركزي للتعبئة والاحصاء رصدت قبل سنوات هذا التردي، فالصحافة في مصر لا توزع أكثر من ربع مليون نسخة يوميا، في بلد كانت بعض صحفه يصل توزيعها إلى مليون نسخة، كما أن فشل الفضائيات لا يحتاج إلى دليل، فعودة "قوات الاحتياط" إلى الشاشة من جديد كاشفة عن الأزمة، ثم إن الهجوم المبتذل ضد قنوات تركيا والعاملين فيها، والذي يخرج عن تقاليد الإعلام المصري، يؤكد هذا المعنى ويعززه!
وكان يمكن الرد على اتهام "هيكل" بقبول رؤساء التحرير التحدي ونشر أرقام التوزيع الحقيقية بدلاً من خناقات الحواري والردح وفرش الملاية، وباتهامات تجاوزت المذكور إلى رأس السلطة في مصر، لكنهم على يقين من أن ما قاله هو أقل من الحقيقة المؤلمة!
اختراق السيسي:
لقد قالوا إن الوزير إخوان وأنه يتعاون مع قنوات تركيا. فكيف استطاعت هذه الجماعة الأخطبوط أن تخترق القوات المسلحة فيُعين هيكل وزيراً للإعلام بعد الثورة، ثم يعاد تعيينه وزير دولة للإعلام في عهد السيسي، بل وأن يكون أحد الذين هندسوا البرلمان وكان أحد رموزه بعد الانقلاب العسكري، فيا لها من جماعة قوية ونشطة!
ما علينا، فالمشكلة أن أسامة هيكل اصطدم بمصالح "الجمعية السرية التي تحكم الإعلام"، وإذا كانت حملة الهجوم عليه، هي كما قال بأوامر، فإن من قاموا بها من رؤساء تحرير، فضلاً عن الثعالب الصغيرة، ليسوا أكثر من أدوات في يد هذه الجمعية، وهي التي خططت من قبل من أجل
عودة منصب وزير الإعلام، وفي فترة زمنية واحدة تم النفخ في الفكرة، وكأن ما ينقص مصر لصلاح حالها أن يكون لها وزير إعلام!
ونجحوا بهذه الحملة في التأثير على السيسي، الذي ضاقت عليه الدنيا بما رحبت فلم يجد أمامه سوى أسامة هيكل، ربما لأن حدود علمه بهذا المجال لا تتجاوز فردين اثنين: أسامة هيكل وياسر رزق، ولأن القاعدة الذهبية هي من نعرفه أفضل ممن لا نعرفه، فقد وقع الاختيار على من تم تجريبه في المنصب وهو أسامة هيكل!
وكانت الدعوة لعودة المنصب هي لإنهاء دور مكرم محمد أحمد، رئيس المجلس الأعلى للإعلام، لأنه
لم يكن طيّعاً في يد "الجمعية السرية التي تحكم الإعلام"، فمن
هذا الضابط الذي يدير المشهد من الخلفية والذي يمكنه أن يوجهه، وما هي كينونته ليظن أنه أخلص للسلطة منه؟!
إن مكرم من زمن يرى أن رجالات الدولة أكبر من أن يكونوا عملاء لأجهزتها الأمنية، لكن فاته أنها دولة الرجل الواحد، بالمعنى الحرفي، وكان لا بد من
التخلص منه بواسطة وزير الإعلام فكانت أزمة المكاتب. وظني أن هناك جهة حرضت هيكل على غزو مقر المجلس الأعلى للإعلام، وربما تكون نفس الجهة أو جهة أخرى هي من حرضت مكرم محمد أحمد على
تقديم بلاغ فيه للنائب العام، لنكون أمام فعل ورد فعل يفتقد للرصانة، ويكشف غياب السلطة التي تتركز في "الرجل الواحد"، ومن الطبيعي ألا يمكنه الإلمام بالتفاصيل وفي الفصل في كل الأمور، ولا يرى الذين من دونه أنهم طرف في شيء منها، ما دامت لم تصدر لهم الأوامر بالتدخل، لنكون أمام دولة تفتقد للكبير، بالمعنى المتعارف عليه في المجتمعات التقليدية.. أو بحسب السادات "أنا كبير العائلة المصرية"!
العزلة والتهميش:
لقد نجحت "الجمعية السرية التي تحكم الإعلام المصري" في التخلص من مكرم، وجميع أعضاء مجلسه، فلم يُعَد تعيين أي منهم في المجلس الجديد. وقد أدت عودة منصب وزير الإعلام الدور المطلوب منها، فلا بد بالتالي من التخلص من الوزير نفسه، الذي بدا مهمشاً ويدار الإعلام من وراء ظهره ومن خلال هذه الجمعية السرية، وعندما شاهدته في مقابلة مع مراسل تلفزيون "فرانس 24"، كتبت تعليقاً عليه في مقالي بجريدة "القدس العربي" أنه فقد روحه، فقد كان واضحاً أنه يعاني العزلة والتهميش!
وإذ قال إنه تعرض للهجوم قبل شهرين، فقد كان من الواضح أن الإعلام يتجاهله، وهو في قبضة "الجمعية السرية"، لكن كان من الواضح حتى نهاية الأسبوع الماضي أن المطلوب فقط هو تجاهله وتهميشه، فلم تحتف وسائل الإعلام بحكم قضائي خسره، عندما أقام دعوى ضد أحد الصحفيين اتهمه بالفساد المالي، وقضت المحكمة من أول جلسة وبدون حضور المدعي عليه بعدم اختصاصها بالنظر في الدعوى!
ومن الواضح أنه حتى هذه اللحظة لم تكن هناك تعليمات صدرت بالحملة ضد "أسامة هيكل"، لكن التحرك كان في وقت لاحق عندما تحدث عن عزوف الشباب عن الإعلام المصري، فكانت هي الفرصة المواتية للإجهاز عليه، وهذا ما يفسر أن هذه الحملة الجماعية ضده، جمعت بين الصحف المملوكة لإعلام المصريين، والصحف القومية، وشارك فيها التلفزيون المصري بجانب قنوات أخرى خاصة مملوكة للأجهزة الأمنية. وبدا أن من يقف في الخلفية هي "الجمعية السرية" هذه، والتي انتفضت دفاعاً عن بيزنس كبير تحتكر إدارته!
وقال أسامة هيكل إن "الأوامر صدرت بشن حملة على شخصي، ومن أقلام معروف للكافة من يحركها، وأن أخطر أنواع الفساد أن يترك الكاتب قلمه لغيره ويكتفي بالتوقيع، وأن هؤلاء مجرد أدوات، وسأرد على من أعطى الأوامر لهم!
إنه هنا يلمح إلى "الجمعية السرية" التي تصدر الأوامر وتكتب المقالات، مع أن الظاهرين في الحملة هم مجرد أدوات، يكتفون فقط بالتوقيع على المكتوب لهم، بما يوحي بأننا أمام أكبر ضربة وجهت للإعلام المصري من داخله. وإذا كان من المستبعد بطبيعة الحال أن يكون الإخوان قد اخترقوا عبد الفتاح السيسي بتعيين أسامة هيكل وزيراً، فإن اتهامه بأنه إخوان مثل مسخرة من العيار الثقيل وأبطل صلاحية هذا السلاح الذي تم إشهاره في وجه الخصوم، فها هم القوم يتهمون وزيراً من الاختيار الحر المباشر للمجلس العسكري ومن السيسي بأنه إخوان، فماذا بقي من مصداقية لدى القوم حتى داخل دوائر المؤيدين للنظام؟!
المعركة ضد أسامة هيكل لم تبدأ الآن، فقد بدأت بقرار الإطاحة بزوجته الصحفية "أمل فوزي" من رئاسة تحرير مجلة "نصف الدنيا". وقد عُينت في زمن نفوذه، إبان حكم المجلس العسكري، وفي اليوم الذي قدمت فيه حكومة عصام شرف استقالتها وكان هو عضواً فيها، صدر قرار تعيينها بعد الاستقالة، وكتبتُ يومئذ أنه قرار باطل، لكن في اليوم الذي كان يفقد فيه منصبه، كان المجلس العسكري حريصاً على ترضيته بهذا التعيين.
الإطاحة بياسر رزق:
لقد فقد أسامة هيكل نفوذه مع أنه أصبح وزيراً، فلم يستطع أن يبقي عليها في منصبها، تماماً كما نجحت "الجمعية السرية" هذه في الإطاحة بياسر رزق، رغم قربه التاريخي من عبد الفتاح السيسي. وليس معنى هذا أنها أقوى من السيسي، فهي تعمل في معيته، لكن لديها أدواتها في التأثير، ومن قبل استخدمت مكرم محمد أحمد في الإطاحة بياسر رزق من رئاسة تحرير الأخبار والاكتفاء بمنصب رئيس مجلس إدارة المؤسسة فقط، وذلك بعد إدانته لاقتحام الأمن لنقابة الصحفيين في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ النقابة العريقة.
وقد بُني هذا الكلام على مبدأ كانت تطالب به الجماعة الصحفية؛ بالفصل بين منصبي رئيس مجلس الإدارة ورئاسة التحرير، وربما راق لمكرم محمد أحمد، وربما أقنع السيسي بوجاهته بدون إحاطته علما بهذا النموذج. وقد حدث استثناء في واحدة من المؤسسات، وما دام الاستثناء قائماً فقد كان الأولى به ياسر رزق، لكن "الجمعية السرية" كان لها رأي آخر، ونجحت في إحالة رزق إلى الاستيداع مؤخراً، في ذات الحركة التي تم التخلص فيها من "أمل فوزي" من رئاسة تحرير "مجلة نصف الدنيا"، نكاية في زوجها!
إن مشكلة "ياسر رزق" و"أسامة هيكل" أنهما يفكران على ذات القواعد القديمة في عهد مبارك، فلا بد من رفع أيدي الأجهزة الأمنية عن إدارة الإعلام والسياسة بشكل مباشر، لكن هناك مصالح استقرت ولديها استعداد لنفسها كل من في طريقها، وهي تدير بيزنس الإعلام وتسيطر عليه بدون كفاءة أو خبرة.
وعندما سئلت من سينتصر في هذه المعركة؟ قلت: "الجمعية السرية" وأذرعها، فهيكل بلا أذرع أو أدوات ولا يمتلك منبراً إعلامياً واحداً، فحتى موظفو التلفزيون الرسمي أصدروا بياناً - يا إلهي - يدينون فيه إهانة الوزير لهم، عندئذ يمكنك الوقوف على من يملك القوة والأدوات، ولا تنسى أن مبنى ماسبيرو في قبضة الشركة المتحدة التابعة للجمعية السرية إياها.
أسامة هيكل إلى المزيد من العزلة، حتى يصدر قرار إقالته.