مقالات مختارة

لا تتركوا دم الشهداء يبرد على أرض فلسطين

1300x600

رحم الله سلطان العلماء العزّ بن عبد السلام، لما كانت الأمة الإسلامية تقاوم أعداءها على ثلاث جبهات مرّ على مسجد فسمع واعظا (يعيش في غير زمانه) يحدِّث الناس عن مسألة أشبه بحكم أكل لحم الضُربان..! في وقت كانت فيه الأمة محاصَرة بأعدائها من ثلاث جهات، فنهره وخرج إلى الناس منذرا بالخطر الماحق ومحذرا من مواعظ العلماء المنفصلين عن أمتهم، وسطر قاعدة جليلة في واجب الوقت بقوله: “من نزل بقريةٍ فشا فيها الرّبا، فخَطَب في الناس عن الزّنا، فقد خان اللهَ ورسوله.. فإنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة خيانة”.

قلت: ما أشبه الليلة بالبارحة؛ “فمن كان في زمن المقاومة وهو يحدّث الناس عن التّطبيع فقد خان اللهَ ورسوله والمؤمنين”.

 

في الوقت الذي كان الطيران الحربي الصهيوني يدكّ قلاع غزة ويدمّر المباني المدنية على رؤوس الأطفال والنساء والشيوخ، ويقصف بجنون وحقد وعشوائية العمارات والمساكن برّا وبحرا وجوّا.. في تلكم اللحظات الفارقة كانت صواريخ المقاومة تنطلق من تحت الأرض باتجاه العدوّ فتصيب أهدافا في عمق دفاعاته مخترقة تحصينات “القبّة الحديدية” وتفرض واقعا جديدا كشفت عنه صفارات الهلع التي كذبت دعاية ليبرمان في غارة “الرصاص المصبوب” في صيف 2014، وسفّهت أحلام نتنياهو بامتشاق المقاومة “سيف القدس” والكشف عن الوجه الجديد لثمرات الحصار بعد أن ظن العدوّ أن غزة جائعة..! فإذا بها تنتفض بعزّة وإباء.

في هذه اللحظات التي انتفضت فيها المقاومة وقررت سلوك سياسة “توازن الرّعب” انتصارا لأهلها في القدس والضفة و48 والشتات واللاجئين عامة وللمحاصَرين في الأقصى خاصة (في الشهر الفضيل عشية عيد الفطر) وللمهدّدين بالترحيل في حي الشيخ جراح.. في هذه اللحظات التاريخية الحاسمة يطلّ علينا علماءُ السلاطين وفقهاء التكايا وخبراء الحريم وعبيد “مشتقات النفط” من جحورهم بأحاديث راغمة مستسلمة تتباكى على الخسائر التي جرّتها المقاومة على الآمنين في غزة.. وتحمّل “صواريخ القسام” العواقب الوخيمة التي جلبها المقاومون على شعبهم. بل منهم من تقطَّع قلبه حسرة وألما على الغاصبين اليهود الذين طالتهم صواريخ المقاومة -بشتى فصائلها- وفرضت عليهم “سياسة الدجاج” بالدخول إلى الخمّ تحت الأرض خلال أيام القصف الذي توعّد العدوَّ بالرد مثلا بمثل: قصفة بقصفة ورشقة برشقة: “وإن عدتم عدنا..”.

 

مواجهة الندّ للند على مدار الساعة خلال 12 يوما عاش فيها العالم كله على صفيح ساخن وصار “الشيخ جراح” كلمة السر التي تتصدر بيانات وكالات الأنباء ونشرات الأخبار وتصريحات زعماء العالم من موسكو إلى واشنطن. ومن جوهانسبورغ إلى جاكرتا.. فصواريخ المقاومة أيقظت الضمير الإنساني العالمي (بمن فيهم أحرار اليهود) فهبَّت البشرية في القارات الخمس تندد بالعدوان وتستنكر قتل الأطفال وتدعو إلى محاكمة المجرمين. وفي داخل الكيان الصهيوني ضجَّ المستوطنون بما لم يكونوا يتوقعون واتّهموا قيادتهم بالكذب عليهم واستدراجهم إلى أوكار الرعب وقد كانوا في أوطانهم مرفّهين. فما الذي جاء بهم إلى فلسطين وليس لهم فيها شجرة ولا حجرة ولا أسلاف ولا ذكريات..؟

هكذا سجلت المقاومة لأول مرة، منذ حرب جوان 67، سبع نقاط نظيفة تفوّقت بها على عدوّ متغطرس كان يسوّق للعالم بأنه يملك جيشا لا يقهر.. وبأنه بنى في السماء “قبة حديدية” تمنع مرور أي جسم ملتهب وتصدّ “الصواريخ العبثية”..! فإذا بكبيرهم يطل على العالم مهزوما معلنا “أن القبة الحديدية لا تمنع سوى 90% من الصواريخ.. والمقاومة منظمة إرهابية تملك قطعة أرض..”.

 

ولم يقل إنه في نيتها التوسع من غزة إلى كل الأرض المحتلة، فبعد وقف إطلاق النار وإحصاء خسائر الرشق المتبادل بين مقاومة وغاصب محتل، سجلت الوقائع سبعة أهداف لصالح المقاومة مقابل هوان وخسّة وهزيمة ونقمة في الداخل والخارج على جيش الاحتلال وعلى سوء إدارة الكيان الصهيوني لشؤون شعبها..


1- أسقطت المقاومة “صفقة القرن” ووضعت بايدن في زاوية حادة.

2- فضحت مسار السلام وطوت آخر أوراقه؛ فلا سلام إلا على جسر من الحرب. ولا حرية إلا بيد مضرّجة بالدم.

3- كشفت عورة المطبّعين الذين وجدوا أنفسهم عراة بغير غطاء أمام شعوبهم وهم يرون طائرات من طبَّعوا معهم تهدِّم بيوت الآمنين وتمزِّق الأطفال أشلاء.

4- ردت القضية إلى الواجهة بعد أن ظن العدو أن الحصار قتل إرادة المقاومة وصارت القضية الفلسطينية قضية “استسلام مقابل غذاء”.

5- وسّعت المقاومة نطاق حركتها من غزة إلى جميع قرى الأرض المحتلة، وطورت مدى صواريخها من 25 كلم إلى 250 كلم. والعاقبة أخطر حسب تصريحات القائد يحيى السنوار.

6- نبهت العالم الإنساني إلى خطر الصهيونية على مستقبل سكان هذا الكوكب بعد أن كانت عبئا على بريطانيا والنمسا والولايات المتحدة..

7- وضعت داعمي الإرهاب الصهيوني في حرج أمام شعوبهم، بعد تنظيم مسيرات يهودية في عواصم راقية تندد بفضائح إدارة نتنياهو العدوانية على المدنيين والأطفال وعلى مقرات الإعلام..

فيا أيها المطبعون: كفوا عنا سفهاءكم واصمتوا، فالأمة في حالة حرب ضد غاصب محتل.. ويا أيها المهرولون احفظوا ماء وجوهكم أمام شعوبكم بيقظة جادة، فليس لكم بعد الله سوى محاضن شعوبكم، ويا ويلكم من غضبة الشعب.. ويا فقهاء السلاطين استيقظوا وكفوا عن حديث “نجاسة دم البعوض”، وحدِّثوا شعوبكم عن حكم نجاسة اقتحام اليهود المسجدَ الأقصى بأحذيتهم في الشهر الفضيل.. حدِّثوا العالم عن كبيرة قتل الأطفال، وعن شرف الموت في سبيل الله، حدثوا شعوب أمتنا عن بشاعة آثار ما صنع طيران العدو الغاصب بأهلينا في غزة.

 

قولوا للعالم صراحة وبلا مواربة: هذه بعض ثمار “نجاسة التطبيع” مع الكيان الصهيوني أمام صمت دولي مريب.. فلو كانت غزة مدينة أوربية أو أمريكية لقامت الدنيا وما قعدت.. ولكن غزة لا بواكي لها إلا أحرار العالم وبعض الأنظمة التي تقاوم الطغيان وتنتصر للمقاومة.

حدِّثوا أمتكم عن “كبائر الصمت الرسمي”، وعن واجب نصرة الأشقاء في فلسطين بالوقوف في صف المقاومة بالمال والسلاح والإعلام والمدد والدعاء.. فالحياد اليوم خيانة، والصمت مؤامرة، والتأجيل كيدٌ مريب.

 

قولوا لشعوبكم: إذا خرج الحاكم عن “عقد شعبه” فقد خلع ربقة البيعة (الانتخاب) من عنقه وصار من أوكد واجبات شعبه عليه خلعُه وإبعاده حتى لو كان قبل انتفاضة الأقصى “وليَّ أمرنا”، فهو اليوم عدو الأمة بوقوفه في غير صف المقاومة، فالشعوب تريد الصلاة في الأقصى وهو يهرول للتطبيع نسدانا لسلام ذليل..! قولوا لكل حاكم متثاقل عن نصرة فلسطين وعن دعم المقاومة: أنت غافلٌ عن أشواق أمتك، أنت في صف العدوّ تمدّ يدك لآل صهيون وتزعم أنك مولانا وأنك من عشيرة المؤمنين؟: “فبئس المولى وبئس العشير”.

قولوا لكل حاكم إنه في زمن الهرولة كان التطبيع “كبيرة سياسية”. قال لنا بعض المطبّعين الرسميين مع الغاصب: “طبّعنا من أجل نصرة القضية الفلسطينية..!”، فها هي ثمار تطبيعكم..! فتداركوا أنفسكم بثلاث..


1- فك الارتباط بالكيان الصهيوني وإنهاء مسار التطبيع لأن الإدارة الصهيونية نقضت عهدها معكم بالعدوان على أشقائكم.

2- المبادرة العاجلة بإعادة إعمار غزة وتعويض ضحايا العدوان في جميع مدن فلسطين وقراها.

3- استقبال قادة المقاومة بفخر واعتزاز لتثمين انتصاراتهم وعدم التفريط بدماء الشهداء، فتلك مهمة مكمِّلة للمقاومة ومتمِّمة لأحلام من ماتوا لتحيا قضيتهم.

اليوم توحّد ما كان مشتتا وشاهت الوجوه وسقط قناع التبرير وتوارت جرذان “مسار السلام” في جحور العار والهوان.. فأصبح “فك الارتباط” مع المحتل واجبا شرعيا، وأمسى استمرار سياسة التطبيع مع قتلة الأطفال والنساء والشيوخ.. خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين.

 

أما أنتم يا رجال الصمود والمقاومة فبشراكم، وجميع النّافرين خفافا وثقالا، بشراكم بما أنجزتم في “سيف القدس”. وهي بداية ممهِّدة لنهاية أراها قريبة فارتقبوا “الضربة الإيمانية” إذا جاء وعدُ أخراها فنصر الله قريب.

 

فقد أُتي الغاصبون من حيث لم يحتسبوا: “وقذف في قلوبهم الرّعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار”. الحشر: 2. ولتعلمنّ نبأه بعد حين وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

 

عن الشروق الجزائرية