في نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، كشفت العديد من التقارير عن قيام الإمارات بإنشاء جسر جوي لتقديم الدعم العسكري لحكومة وجيش أثيوبيا ضد جبهة تحرير شعب التيغراي. وبحسب بعض التحقيقات التي جرت حول الموضوع، فقد استعانت أبو ظبي بشركات أوروبية لتسيير هذه الرحلات، من بينها شركة إسبانية تدعى "يورب إير" ساعدت في تنظيم 54 رحلة شحن عسكري بين الإمارات وأثيوبيا في أقل من شهر، وشركة "فلاي سكاي إيرلاينز" الأوكرانية التي قامت بـ 39 رحلة شحن عسكري خلال شهرين.
أثار هذا الدعم الدبلوماسي والعسكري التساؤلات حول طبيعة العلاقة بين أبو ظبي وأديس أبابا والأهداف الأساسية من ورائه، خاصّة انّه يتعارض مع سياسات بعض دول صديقة للإمارات كالولايات المتّحدة الأمريكية ومع مصالح دول حليفة لها مثل مصر على سبيل المثال.
في حقيقة الأمر، فإنّ العلاقة بين الإمارات وأثيوبيا ليست جديدة أو مُستجدّة، وإنما تعود لسنوات إلى الوراء. في العام 2010، افتتحت الإمارات سفارتها في أديس أبابا، ثمّ سرعان ما شرعت في بناء نفوذ اقتصادي وسياسي لها في البلاد. لعبت أبو ظبي كذلك دوراً دبلوماسيا في المصالحة التي جرت في العام 2018 بين أثيوبيا وأريتريا، وقدّمت دعماً مالياً لأثيوبيا بقيمة حوالي 3 مليارات دولار، من بينها مليار كوديعة في البنك المركزي، وملياران كاستثمارات متنوعّة.
أطلقت أبو ظبي في العام 2019 العديد من الحملات الترويجية لدعم الاستثمار في أثيوبيا وتعميق التعاون الاقتصادي بين البلدين. لدى الإمارات اليوم ما يزيد على الـ113 مشروعاً استثمارياً في أثيوبيا، وبلغ حجم التجارة بين الطرفين حوالي 800 مليون دولار. تمتلك أبو ظبي اليوم مشاريع في مجالات الزراعة، الصناعة، والتجارة، والاستثمار، والخدمات، والعقارات، والطاقة في أثيوبيا.
لعبت أبو ظبي كذلك دوراً دبلوماسيا في المصالحة التي جرت في العام 2018 بين أثيوبيا وأريتريا، وقدّمت دعماً مالياً لأثيوبيا بقيمة حوالي 3 مليار دولار، من بينها مليار كوديعة في البنك المركزي، ومليارين كاستثمارات متنوعّة.
هذه المعطيات تعني أنّ العنصر الاقتصادي قد يكون حاضراً في الحسابات الإماراتية في أثيوبيا، لكنّه لا يفسّر منفرداً بالتأكيد حجم الدعم العسكري للجيش الأثيوبي والغاية الأساسية من ذلك. وبالرغم من أهمّية الاقتصاد في الأجندة الإماراتية عموماً، إلاّ أنّ سياسات أبو ظبي ـ الغنيّة بالنفط ـ لا تنطلق بالضرورة من هذا الجانب، وغالباً ما تحتل الحسابات الجيوبوليتيكية والأيديولوجية موقعاً متقدّماً في أجندة صانع القرار هناك.
من الناحية الجيوبوليتكية، سعت أبو ظبي خلال السنوات القليلة الماضية إلى إنشاء موطئ قدم لها في القرن الأفريقي وعلى تماس مع المضائق المهمة والحيوية في المنطقة. ومن أجل ذلك، عملت دون كلل على تعزيز وجودها المباشر من خلال النشاطات ذات الطابع السياسي والاقتصادي والعسكري في منطقة القرن الأفريقي. شكّلت أثيوبيا محطّة مهمة في هذه السياسة لاسيما بعد تراجع نفوذ أبو ظبي في الصومال. في مرحلة من المراحل، كان هذا التموضع يأتي ضمن أجندة أوسع تهدف إلى قطع الطريق على الدور الذي تلعبه دول أخرى في المنطقة كتركيا وقطر وتقويض النفوذ المتزايد لأنقرة في المنطقة.
لكنّ اللافت للانتباه مؤخراً، أنّ هذا التموضع بدأ يرتبط بشكل متزايد بسياسات الإمارات بكل من مصر وإسرائيل. علاقات الإمارات بأثيوبيا تتناقض مع المصالح المصريّة بشكل كبير وهو يثير استياء الجانب المصري الذي بدأ ينظر بشكل متزايد في العامين الماضيين بشيء من الشك والريبة إلى طبيعة العلاقة التي تربط أبو ظبي بأثيوبيا.
فالقاهرة تعتبر نفسها في صراع وجودي فيما يتعلق بمياه النيل وخطط أثيوبيا للإستفادة منها عبر سد النهضة. القاهرة فشلت في منع أثيوبيا من بناء السد، وفشلت في حملها على تعديل المشروع وفق شروطها، وكانت تتوقع أن تمارس أبو ظبي ضغوطاً على الحكومة الأثيوبية لأخذ مطالبها بعين الاعتبار لكنّ ذلك لم يحصل. عندما قدّمت القاهرة الملف العام الماضي على أنّه مسألة أمن قومي في الجامعة العربية طالبةً دعم الدول العربية لها، كان موقف أبو ظبي مثيراً للاهتمام. فعلى غير العادة، وبخلاف باقي الأعضاء لم تقم الإمارات بإبداء الدعم المطلق للقاهرة، وإنما اعتمدت موقفا متوازناً.
لكن ما أثار حنق المصريين هو تقديم أبو ظبي الدعم للحكومة الأثيوبية في توقيت حرج للغاية. اندلاع الصراع بين الحكومة الأثيوبية وجبهة تحرير شعب تيغراي يضعف من موقف الحكومة الأثيوبية داخليا وخارجيا، وهو أمر مفيد جداً من وجهة النظر المصرية ويمتلك القدرة على تشتيت الجهود الحكومية المتعلقة بسد النهضة. لكن الدعم الإماراتي للحكومة الأثيوبية يصب في الاتجاه المعاكس. إذا ما تابعنا المسار الزمني لتكثيف الدعم الإماراتي لأثيوبيا، سنلاحظ أنّه تم بشكل أساسي في العام 2021 في وقت كانت فيه قوات التيغراي تتقدّم ضد القوات الحكومية. لم تكتف أبو ظبي بإرسال أطنان من المعونات، بل قامت عملياً بإنشاء جسر جوي لدعم الجيش الأثيوبي بالسلاح.
القاهرة فشلت في منع أثيوبيا من بناء السد، وفشلت في حملها على تعديل المشروع وفق شروطها، وكانت تتوقع أن تمارس أبو ظبي ضغوطاً على الحكومة الأثيوبية لأخذ مطالبها بعين الاعتبار لكنّ ذلك لم يحصل.
وبحسب المعلومات الموثّقة، فقد زوّدت الإمارات القوات الحكوميّة الأثيوبية بالأسلحة والمعدات اللازمة لصد تقدّم قوات التيغراي من بينها مُسيّرات مقاتلة صينية الصنع من طراز "وينغ لوونغ" التي كانت أبو ظبي قد أرسلت عدداً منها كذلك إلى أمير الحرب في ليبيا خليفة حفتر قبل أن ينهزم ويتقهقر إلى شرق البلاد بعد دخول تركيا المعادلة.
علاوة على المصالح السياسية والاقتصادية والأمنيّة الإماراتية في أثيوبيا، لا يمكن استبعاد فكرة أن يكون جزء من الدعم المقدّم لأثيوبيا بمثابة رسالة للنظام في مصر الذي يدين في بقائه إلى حد كبير إلى الدعم الإماراتي بشكل أساسي. قبيل المصالحة الخليجية، كان لدى أبو ظبي توقّعات بشأن إمكانية تدخل مصر عسكرياً في ليبيا، لكنّ القاهرة فضّلت عدم التورط. علاوة على ذلك، ما أن تمّ عقد إتفاق العلا في السعودية، حتى سارعت القاهرة في بداية عام 2021 إلى فتح خطوط لتطبيع علاقاتها مع قطر وتركيا دون استشارة أبو ظبي أو التنسيق معها. ولذلك، فإن هناك من يرى بأنّ سياسات الإمارات في أثيوبيا هي لاحتواء النظام المصري وإبقائه تحت السيطرة.
نقطة أخرى قد تكون ذات صلة بالموضوع وهي العلاقة مع إسرائيل. لطالما اتّهمت مصر إسرائيل بدعم أثيوبيا لاسيما فيما يتعلق بمشروع سد النهضة ومياه النيل. وبغض النظر عمّا إذا كانت هذه الاتهامات صحيحة أم أنّها تكتيك شعبوي للتغطية على عجز النظام المصري وشيطنة الحكومة الأثيوبية، فإنّ هناك من يعتبر أن الموقف الإماراتي في أثيوبيا يأخذ بعين الاعتبار الحسابات الإسرائيلية.
إسرائيل في عهد رئيس الوزراء السابق نتنياهو كانت قد بدأت تولي أهميّة أكبر لأبو ظبي على حساب القاهرة بدليل أنّ عدداً من المشاريع الاقتصادية الإماراتية ـ الإسرائيلية التي تمّ طرحها للعمل المشترك تهدّد بالدرجة الأولى مصالح مصر أكثر من غيرها من دول المنطقة.
وبغض النظر عمّا إذا كان موقف الإمارات في أثيوبيا مرتبطاً بحسابات أبوظبي السياسية والإقتصادية والأمنيّة المباشرة في أثيوبيا، أم أنّه يتعلق بموقفها من دول ثالثة ورغبتها في استخدام ثقلها في الملف الأثيوبي لتوجيه رسائل، لا يوجد ما يشير إلى إمكانية حصول تحوّل جوهري في الملف خلال المرحلة المقبلة.
ما هكذا تورد الإبل يا "عقيلة صالح"!
لماذا انتهى "شهر العسل" بين تركيا وروسيا؟
البرلمان وستيفاني والخلاف حول خارطة الطريق