في سياق تلك السلسلة التي استمرت لتكمل مئة من المقالات، كان الهدف أن نستدعي أمرا جللا يتعلق بالمواطنة ومفهومها، ذلك أن اهتمامنا بمفهوم
المواطنة تأصيلا وتطبيقا ليس وليد هذه اللحظات، ولا مجرد رصد لهذه اللقطات.
وقد أردنا أن نؤكد أن هذا المفهوم "المواطنة" وارتباطه بالوطنية والوطن هو من القضايا الجوهرية التي تجعل من مفهوم المواطنة مفهوماً متكاملاً شاملاً يعبر عن حقائق كبرى تتعلق بكون المواطن إنساناً قبل كل شيء؛ له من الحقوق وعليه من الواجبات.
ولعل ارتباط مفهوم الأمانة بالإنسان والتي يحملها دون سائر مخلوقات الله سبحانه وتعالى: "إِنّا عَرَضنَا الأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالأَرضِ وَالجِبالِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلنَها وَأَشفَقنَ مِنها وَحَمَلَهَا الإِنسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلوماً جَهولاً" (الأحزاب: ٧٢)؛ لهو تعبير عن حقيقة ثقل المهمة التي يحافظ فيها ذلك الإنسان على عزته وكرامته، باعتبار أن ذلك التكريم هو أصل الوجود الإنساني الذي جعل هذا الإنسان مختارا من ناحية ومسؤولاً من ناحية أخرى: "وَلَقَد كَرَّمنا بَني آدَمَ وَحَمَلناهُم فِي البَرِّ وَالبَحرِ وَرَزَقناهُم مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلناهُم عَلى كَثيرٍ مِمَّن خَلَقنا تَفضيلاً" (الإسراء: ٧٠).
أردنا أن نؤكد أن هذا المفهوم "المواطنة" وارتباطه بالوطنية والوطن هو من القضايا الجوهرية التي تجعل من مفهوم المواطنة مفهوماً متكاملاً شاملاً يعبر عن حقائق كبرى تتعلق بكون المواطن إنساناً قبل كل شيء؛ له من الحقوق وعليه من الواجبات
هذه الحقائق الكبرى التي تتعلق بهذا الشأن جعلتنا نفتح دفاتر مستجدة حول المواطنة وأحوالها، وحول الزيف الذي طال الفهم الإنساني للمواطنة. كل ذلك كان من الدواعي التي جعلتنا نعنون تلك المقالات بعنوان ثابت "المواطنة من جديد".
في المواطنة كان إسهامنا في كتابين اثنين؛ الأول منهما كان في واحد من أهم المؤتمرات العلمية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، حينما بدا لمركز الدراسات السياسية أن يدشن مؤتمراً كبيراً حول حال المفهوم آنذاك. كان ذلك قبل ثورة يناير ببضع سنين، وكنا قد أردنا أن نشير إلى ذلك النظام المستبد حينما يجور على مساحات المواطن والإنسان، ويجعل منه مادة يحاول تزويرها ويحاول تزييف عقوله الناس، ويؤكد على فهمه الخاص لمعنى المواطنة الصالحة في عرفه من خلال سياسات ممنهجة تقوم على قاعدة من تأميم المجال العام والمجال الديني على وجه الخصوص، ومن الاستخفاف بكل ما يتعلق بحقوق الإنسان والمواطنة. إلا أن هذا الاهتمام كان يدور حول لقطات/ مشاهد مفزعة في باب المواطنة الذي جعلنا عنوانا له "الزحف غير المقدس" للسلطة المستبدة على حياة الإنسان والمواطن، خاصة "تأميم الدولة للدين"، وهو ما جعلنا نشير إلى أن واقع هذا المفهوم يحتاج بعد كل فترة إلى فتح دفاتر هذا الملف الذي يشكل حقيقة معاش الإنسان.
ثم كان الاهتمام الثاني ضمن كتاب آخر وفي بيان سلسلة المفاهيم تأصيلاً وتنزيلاً، ليشكل هذا المفهوم مدخلاً مهماً في تمكين الدلالات الأساسية في الرؤية الإسلامية لمفهوم المواطنة، خاصة أن البعض ربما اتخذ موقفاً مسبقاً من ذلك المفهوم في سياق من التجني والرفض التام باعتباره مفهوما غربيا، وهو أمر يصعب قبوله ضمن المواقف العلمية التي تتسم بالعدل في الرؤية والموقف، والاستقامة العلمية والموضوعية، وهو ما جعلنا مع هذا المفهوم أن نقدم تصورات أولية ضمن إشكالات جوهرية لمفهوم المواطنة والبحث عن استناداته في مرجعية إسلامية أصيلة تجعل أصل ذلك المفهوم في الإنسان المواطن وحقوقه الأساسية في الكرامة الإنسانية والعيش الكريم.
هذه الحقائق الكبرى التي تتعلق بهذا الشأن جعلتنا نفتح دفاتر مستجدة حول المواطنة وأحوالها، وحول الزيف الذي طال الفهم الإنساني للمواطنة. كل ذلك كان من الدواعي التي جعلتنا نعنون تلك المقالات بعنوان ثابت "المواطنة من جديد"
وأكدنا في هذا الكتاب على كيف مكَّن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك المفهوم ضمن أسس المجتمع الذي أنشأه بعد هجرته إلى المدينة في "دستور/ صحيفة المدينة"، وبدا أيضا هذا الأمر في الإشارة إلى المعنى الجمعي الكائن ضمن هذا المفهوم الذي يؤكد على الجماعة الوطنية، والالتزام بأصول تحفظ بنيانها وتؤكد على تماسكها ولحمتها. وفي هذا المقام كان علينا أن نؤكد على المدخل السفني (المستند إلى حديث السفينة) لفهم مفهوم المواطنة الجمعي ضمن عملية التأصيل، بما سيكون لها من مآلات في مواجهة الإشكالات وعمليات التنزيل.
إلا أن ذلك لم يمنعنا من الحديث في محاولات مهمة لتصحيح التناول لمفهوم المواطنة، سواء في تبني الحضارة الغربية لذلك المفهوم (المواطن العالمي المستهلك)، أو الإشكالات التي تحاول تزييف هذا المفهوم من الغازي الخارجي ومن المغتصب المستبد الداخلي. وأكدنا على أن فقدان هذا المفهوم لأهم معانيه التي تتعلق بالإنسانية إنما يشكل أكبر ضربة في الصميم لهذا المفهوم ومقاصده التأسيسية، وهو ما سمح بخطابات عنصرية وشعبوية حتى في الحضارة الغربية التي حاولت أن تكيل بمعايير متعددة حينما افتقد هذا المفهوم إلى الميزان المتمثل في كرامة الإنسان.
اغتصاب المفهوم لم يكن فحسب من قبل الحضارة الغربية التي بدت تكيل بألف مكيال، وكانت تلك اللحظات الكاشفة والفارقة في وباء كورونا وحرب أوكرانيا حتى أننا قد هممنا بكتابة مقال بعنوان "المواطنة بين كورونا وأوكرانيا"، المواطنة في ذلك كانت بين اغتصابين؛ اغتصاب صاحب المصالح الغربية الأنانية والعنصرية، واغتصاب المستبد لهذا المفهوم وتزييفه
فضلا عن هذا فإن اغتصاب المفهوم لم يكن فحسب من قبل الحضارة الغربية التي بدت تكيل بألف مكيال، وكانت تلك اللحظات الكاشفة والفارقة في وباء كورونا وحرب أوكرانيا حتى أننا قد هممنا بكتابة مقال بعنوان "المواطنة بين كورونا وأوكرانيا"، المواطنة في ذلك كانت بين اغتصابين؛ اغتصاب صاحب المصالح الغربية الأنانية والعنصرية، واغتصاب المستبد لهذا المفهوم وتزييفه تحت عناوين كثيرة زحف فيها على كل المجالات التي تتعلق بمعيشة المواطن والإنسان في داخل الأوطان، ونقض هذا المفهوم عروة عروة ضمن استراتيجيات الظلم والترويع والإفقار والتجويع، فشيد من خلال ذلك مفهوما خانعا للإنسان واستعبادا للمواطن.
ومع ذلك قد يقول البعض إن "الأمور قد لا تستدعي، وقد أوضحت تلك المعاني الأساسية ضمن رؤية أساسية واسعة للمفهوم في التنظير والتأصيل وفي التفعيل والتشغيل وفي التطبيق والتنزيل، وأن ذلك كاف في هذا المقام، فلماذا تم فتح تلك الدفاتر من جديد في تلك المقالات المئة؟ هل للتذكير بكل ما سبق؟ أو للتأكيد أن أحوالاً قد مرت بها البلاد والعباد وجب من خلالها إعادة قراءة المفهوم في الواقع، والواقع في المفهوم".
بدا ذلك حينما كنا نتحدث عن نظام مبارك المخلوع وثورة يناير المغدورة التي تعبر عن حدث شعبي جمعي غير مسبوق في الطلب على التغيير والتأكيد على فاعلية الإرادة الشعبية والتأثير، فالأمر هنا تعلق في كتابنا الأول بمدخل اللقطات/ المشاهد، والذي حرصنا فيه أن نتوقف عند تحليل تلك اللقطات المتتابعة والصادمة في باب المواطنة؛ للتأكيد على أن المستبد لا يعدم من خلال أدوات ووسائل إلا أن يقوم باغتصاب هذا المفهوم وإعدام/ تفريغ جوهره في الممارسة، للتأكيد على المواطنة الصالحة عنواناً والزائفة جوهراً والتي يريد من خلالها التمكين للمستبد والمستبدين.
إلا أنه بعد ذلك الانقلاب العسكري على تلك الثورة المباركة وقطع الطريق على مسار ديمقراطي حقيقي في سردية أساسية تطارد هذه المنظومة
الاستبدادية، رغم أنها حاولت من خلال كل أفعالها التي اغتصبت مفهوم المواطنة وأعدمته، وعلى غير الحقيقة؛ أخرجت هذه المنظومة سردية أخرى أسمتها "الاختيار"، في أجواء من القهر والقمع والاستبداد والقسر والإكراه، في محاولات لتطبيع الشعوب والتمكين لحال القطيع.
تلك السردية المزعومة في "الاختيار" لم تكن في حقيقة الأمر إلا قهراً وقسراً، والترويج للخنوع والخضوع، ولكل أمر يتعلق بالمستبد الطاغية
إلا أن تلك السردية المزعومة في "الاختيار" لم تكن في حقيقة الأمر إلا قهراً وقسراً، والترويج للخنوع والخضوع، ولكل أمر يتعلق بالمستبد الطاغية الذي إذا يوجه له خطاب "وَإِذا قيلَ لَهُم لا تُفسِدوا فِي الأَرضِ قالوا إِنَّما نَحنُ مُصلِحونَ" (البقرة: ١١). فبدت تلك الطبعة الانقلابية التي قلبت بقية من مجتمع في قيمه ومفاهيمه الأساسية، وحاولت أن تجعل من تلك الطبعة الانقلابية ليس مجرد لقطات تعبر عن لحظات كاشفة، ولكنها أرادت أن تترجم ذلك إلى حالة تمكن لحياة الاستبداد المقيم والفساد العميم، ضمن أطر من استراتيجيات أضرت بالوطن والوطنية والمواطن ونالت من كرامة الإنسان.
هذا الأمر كان يستحق متابعة جديدة، خاصة في تلك الخطابات التي ترد على لسان المنقلب في مناسبات عديدة يحاول من خلالها التمكين لخطاب الاستبداد، ومطاردة كل المفردات التي تتعلق بالكرامة والحرية والعدالة.
twitter.com/Saif_abdelfatah