يعاني الأردن في هذه المرحلة من تخبط استراتيجي واضح، فمن الدعوة لتشكيل ناتو شرق أوسطي، إلى التسريبات الصادرة مؤخرا عن مصادر من المعارضة السورية بوجود فكرة إقامة
منطقة آمنة في جنوب
سوريا.. التخبط المقصود يكشفه عدم وجود استعدادات موازية
للاستجابة للمشاريع المطروحة، بل العكس، إذ يبدو، ومن خلال ما تنشره وسائل الإعلام وخبراء أردنيين، وجود انقسام واضح حول المشاريع المذكورة.
وإذا كان مشروع
الناتو الشرق أوسطي قد تراجعت حظوظه بدرجة كبيرة، مما دفع وزير الخارجية أيمن الصفدي إلى
التبرؤ من التفسيرات التي وصفت الأردن وكأنه ليس فقط قائداً للفكرة بل وداعيا لها، فإن فكرة المنطقة الآمنة في جنوب سوريا تبدو بديلاً منطقياً، كون مهمتها تنحصر ضمن نطاق حماية الحدود الأردنية من اختراقات المليشيات الإيرانية عبر تجارة المخدرات التي يمكن اعتبارها في الحسابات الأمنية كمقدمة لاختراق أخطر للأمن الأردني عموماً.
لا شك أن الأردن، وفق المعطيات الأمنية الحالية، وفي ظل حالة الفوضى التي تعيشها المنطقة، والتي تشكّل الحرب الأوكرانية إحدى مسبباتها، يجد نفسه وسط مأزق مركب، فمن جهة يصعب السكوت عن السياسات المقصودة والهادفة إلى اختراق أمنه القومي، ومن جهة أخرى الافتقاد إلى سند إقليمي أو دولي لمواجهة هذه الأوضاع الضاغطة. وقد أثبتت الحرب الأوكرانية أن الصراعات بين قوى غير متوازنة تستلزم وجود حلفاء لديهم استعداد للسير إلى أبعد الحدود؛ لتأمين مخارج آمنة في مواجهة التحديات الماثلة.
إذا كان مشروع الناتو الشرق أوسطي قد تراجعت حظوظه بدرجة كبيرة، مما دفع وزير الخارجية أيمن الصفدي إلى التبرؤ من التفسيرات التي وصفت الأردن وكأنه ليس فقط قائداً للفكرة بل وداعيا لها، فإن فكرة المنطقة الآمنة في جنوب سوريا تبدو بديلاً منطقياً، كون مهمتها تنحصر ضمن نطاق حماية الحدود الأردنية من اختراقات المليشيات الإيرانية عبر تجارة المخدرات
يقودنا ذلك إلى السؤال عن أدوات الأردن ووسائله إذا أراد بالفعل السير في طريق إقامة منطقة أمنة على حدوده الشمالية؛ فالمطروح حسب التسريبات الصادرة عن المعارضة السورية الاعتماد على فصائل المعارضة المحلية في جنوب سوريا في إقامة المنطقة الآمنة، وبالتالي فإن دور الأردن ينحصر في تأمين الدعم اللوجستي اللازم لها، وسيستلزم حكماً الاعتراف بها كفاعل شرعي في الحدث السوري؛ فما هي إمكانيات تطبيق هذه المقاربة في الظروف الحالية للصراع السوري، والترتيبات الإقليمية والدولية الجارية في المشهد الشرق أوسطي عموماً؟
من المعلوم أن الفصائل السورية المسلحة لم يعد لها وجود فعلي على الأرض، بعد أن جرى تفكيك هياكلها تنفيذاً للتسويات التي أشرفت عليها روسيا في جنوب سوريا، بترحيب أردني وغض نظر أمريكي، بل إن كثيرا من عناصر تلك الفصائل أصبح منخرطاً ضمن هياكل المليشيات الإيرانية وقوات الأسد، وما تبقى خارج هذه الأطر فهي قوات محدودة، مثل "حزب اللواء" في السويداء الذي لا يتعدى قوام قواته العسكرية العشرات من العناصر، أو قوات أحمد العودة التي تعمل تحت إشراف الروس والتي لا يتجاوز عددها المئات، وهو عدد لا يوازي عناصر مليشيا إيرانية واحدة من تلك التي تنتشر في جنوب سوريا. باستثناء هؤلاء، هناك خلايا لا زالت تعمل وتقوم بعمليات خاطفة، لكنها لا تصلح أن تكون قوّة حارسة لمنطقة أمنة قد تمتد على مساحات واسعة في جنوب سوريا.
إقليمياً، تتكاثر المؤشرات عن اقتراب تطبيع العلاقات بين إيران والسعودية، وبالتالي برود الصراع الذي شغل مساحة العقد الماضي بأكمله، الأمر الذي يخرج السعودية من أي مشروع لمواجهة إيران في المنطقة، من لبنان إلى سوريا، وبالتالي من غير المتصوّر أن تقدّم السعودية للأردن أي شيء ذي قيمة للدفاع عن نفسه في مواجهة المشروع الإيراني الشرس الذي لا يكل ولا يهدأ، وذات الأمر ينطبق على باقي الفاعلين الآخرين الذين هم على علاقات طيبة مع إيران مثل الإمارات وقطر، أو الذين لا تعنيهم إيران ومشاريعها مثل مصر.
الأردن، ووفقاً للمعطيات الحالية، يواجه مأزقاً أمنياً حاداً يتمثل بالتهديد القادم من صوب سوريا، ولا يبدو أن لديه خيارات مريحة للتعامل مع هذا الوضع، سوى أن يسهر الليل طويلاً على الحدود السورية
ولا يبدو أن أمريكا مهتمة بهذا الأمر، رغم التلميح بأن القاعدة الأمريكية
في التنف ستتولى إدارة وترتيب هذه المنطقة الآمنة؛ فواشنطن بغنى عن أي أسباب قد تعقّد علاقتها بطهران، فيما هي تحاول تفكيك التعقيدات المتعلقة بالملف النووي. ولا يمكن تصوّر إقامة منطقة أمنة في جنوب سوريا بدون مظلة أمريكية، حتى روسيا لن تقبل ذلك لأنه يتعارض مع الترتيبات التي أجرتها في جنوب سوريا في السنوات الأخيرة، والتي قضت بتفكيك هياكل المعارضة وشطبها من المعادلات القائمة، في حين أن إسرائيل قد يكون من مصلحتها ارتفاع منسوب الفوضى في المنطقة بما يؤدي الى إضعاف جميع الأطراف وانشغالها بصراعات تستنزف طاقاتها، وتبعد أنظارها عن ممارسات إسرائيل في الضفة الغربية المحتلة.
والحال؛ فإن الأردن، ووفقاً للمعطيات الحالية، يواجه مأزقاً أمنياً حاداً يتمثل بالتهديد القادم من صوب سوريا، ولا يبدو أن لديه خيارات مريحة للتعامل مع هذا الوضع، سوى أن يسهر الليل طويلاً على الحدود السورية، على حد قول رئيس مجلس النواب الأردني سعد هايل السرور.
twitter.com/ghazidahman1