مع إعلان تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، وباستمرار نظام المحاصصة، أيقن العراقيون أكثر من أي وقت آخر، أن وطنهم لم يخرج بعد عن دائرة الهيمنة الإيرانية، خاصة أن من يدير هذه الحكومة من خلف الكواليس، هم من أكثر القوى والشخصيات ولاءً لإيران، وسمعاً وطاعة لنظام الولي الفقيه، ليسدل الستار على فصل جديد من فصول أزمة النظام السياسي في العراق، الذي لم ينته، بعد فشل التيار الصدري في تشكيل حكومة وطنية «لا غربية ولا شرقية»، التي أضحت في النهاية أشبه بأمنية ساذجة غير قابلة للتحقق، إذا أخذنا بعين الاعتبار، القاسم المشترك الذي يجمع الأحزاب العراقية، من الإطار التنسيقي، أو من التيار الصدري، وهو ثقافة الدين السياسي، وحجم الضغوط الخارجية الهادفة إلى إبقاء البلاد ضمن هذا المحور الإقليمي الطائفي، من خلال دعم استمرار النظام السياسي الذي فرض عليه منذ غزوه 2003، على الرغم من الجهود الذي بذلتها القوى الوطنية لإخراج العراق من دائرة الهيمنة الخارجية، وتعرضها لعمليات البطش والتنكيل التي راح ضحيتها العديد من العراقيين في تشرين 2019.
عدم القدرة على تجاوز حدود الفصل بين الهوية الوطنية والهوية الطائفية، يمكن اعتباره بمثابة التحدي والسلاح لهدم الدولة الوطنية.
وحيث أن الخصوصية الوطنية للانتفاضة التشرينية، هي القاسم المشترك لانتفاضة العراقيين، تبقى الخصوصيات الطائفية عامل انقسام واختلاف داخلي، عندما تتعلق الأمور بمن له الأولوية في الحكم، في الوقت الذي تتساوى وتتراضى فيه الآراء، عندما يتعلق الأمر باستمرار النظام الطائفي وقبول تجييره ودعمه من إيران.
وإذ كان بروز هذه الظاهرة بوضوح في صراع التيار الصدري والإطار التنسيقي الأخير، أعطى دليلا آخر يضاف إلى سلسلة التناقضات وحالات التشرذم السياسي الموجودة في الدولة العراقية، إلا أنه بات يـُمثل في الوقت نفسه، إشارة واضحة لعدم تأثير الدولة العراقية في أحزابها، التي يراد منها تمثيل مكوناتها، والغياب المتعمد للمشروع الوطني، الذي يمثل هوية العراق واستقلاليته وثقله السياسي والاقتصادي في الشرق الأوسط. فلا صوت إذن يعلو على صوت الطائفة أو المذهب، في علاقة الدولة العراقية بمحيطها الإقليمي والعالم، بعد أن تداخلت نزعات الهوية الطائفية للنظام الجديد مع ثوابت السيادة للهوية الوطنية.
لا شك في أن الولايات المتحدة ستبقى حاضرة في المشهد العراقي، سعياً للحفاظ على نفوذها وإمكانياتها
لا شك في أن هذه الإشكالية والازدواجية في عدم القدرة على تجاوز حدود الفصل بين الهوية الوطنية والهوية الطائفية، يمكن اعتباره بمثابة التحدي والسلاح لهدم الدولة الوطنية. كما يُمكن قراءته في الوقت نفسه ولأسباب داخلية، على أنه فشل لهذه الهويات المذهبية للارتباط في المشروع الوطني لبناء الدولة، وبالتالي تفضيلها لأهمية العلاقات الفئوية التي تربطها بدول الجوار، وعلى حساب أهمية استقلالية الوطن، على الرغم من صعوبة حكم العراق عن طريق طائفة معينة، واستحالة ربط الهوية الوطنية بطائفة ومذهب.
إن التغير والالتباس في موقف الدولة الرسمي، وبالتالي هذا التناقض في الموقف العراقي، لم يكن ليرى النور، وأن ينجح جزء منه، لولا وجود هذا الفضاء الشاهق، وهذا الفراغ الواسع الذي سـمح للدول الإقليمية بالتمتع به وملئه. فالهوية الوطنية العراقية إذن لم تتغير، ولم تسقط بسقوط الدولة العراقية، وأن ما تغير هو غياب الدولة الوطنية بعد إزاحتها وإبدالها بدولة مذهبية، ومن ثم شرعنة التعامل بالهوية الطائفية في تعامل العراق مع جيرانه والعالم، على حساب الهوية الوطنية في تمثيل مواقف الدولة الرسمية من التغيرات المقبلة في المنطقة والعالم.
ونظراً للخطورة التي يحملها هذا التناقض من الثورات في المنطقة وأثره في الموقف الرسمي العراقي وفي مستقبل حكم وإدارة البلاد، فقد يثير هذا الالتباس في الموقف العراقي، تجاه أحداث المنطقة وثورات شعوبها، العديد من التساؤلات في ما يتعلق بالإشكالية الناتجة من الخلط بين موقف الدولة وموقف الطائفة أو المذهب، والحدود المسموح بها في الفصل ما بين الهوية الطائفية والهوية الوطنية، في صياغة الموقف العام للصورة التي يراها العالم للعراق.
ثمة من يرى في عدم مبالاة الأحزاب العراقية الحاكمة تجاه اتساع رقعة الأحداث في إيران، وعدم فهم أسباب الدعم الغربي والأمريكي لها، واحتمالات نجاحها في قلب الموازين في هذا البلد، ومن ثم تأثيرها في طبيعة النظام السياسي في العراق، إلى حالة التناقض الذي تعاني منه أيديولوجية هذه الأحزاب. فعلى وقع التطورات الأخيرة في الجوار العراقي، وتصاعد ضغط الشارع الإيراني على نظام الولي الفقيه، برزت في الساحة السياسية العراقية العديد من المؤشرات الواضحة لحالة من الانفصام الأيديولوجي والسياسي، وقد لا يذهب المرء بعيداً في رؤية هذا التناقض الرسمي، وتفاوت التصريحات تناسبا مع التشابه، أو الاختلاف في الهوية الطائفية والمذهبية، في التفسير وغياب الموضوعية في ما يتعلق بما يحدث من انتفاضة أو ثورة في شوارع ومدن الجيران. يبقى السؤال الأهم هو في طبيعة الموقف الأمريكي المقبل تجاه العراق، والمسار المتوقع لنظامه السياسي من التغيرات المقبلة في المنطقة؟
لا شك في أن الولايات المتحدة ستبقى حاضرة في المشهد العراقي، سعياً للحفاظ على نفوذها وإمكانياتها، حيث عملت منذ اختيار الحكومة الأخيرة التي شكلها الإطار التنسيقي، وعلى استقطاب رئيس الوزراء الجديد إلى جانبها والتقرب منه. فالولايات المتحدة لا تريد خسارة نفوذها في العراق، وهي التي من صنعت هذه التجربة في حكم هذا البلد، وهي التي تعلم أن في هذا العالم الصاخب ليست هناك صداقة دائمة ولا عداوة دائمة، ولكن هناك مصالح دائمة تتناسب مع التغيرات التي تطرأ على الأنظمة، وهذا ما سيدفعها إلى إعادة النظر، إذا شاءت الظروف والسياقات الإقليمية في دعم النظام الطائفي العراقي ولو إلى حين.