ما
من نبيٍّ أو وليٍّ أو مصلحٍ أو زعيم حقيقي، قد يجوز تعريفه بأنه "مواطن صالح"،
إذ أن المواطن الصالح -بتعريفه- لا يكون إلا عبداً خاضعاً لشتَّى القواعد
والأعراف، التي تمخَّض عنها "العقد الاجتماعي" الذي يحكم بيئته. وهذا
نقيضُ ما جُبِلَ عليه النبي أو الولي أو المصلح أو الزعيم، وضد ما ينفُر له
ويُمثله؛ بما أن هذا "الإنسان الاستثنائي"، يُبتَعَثُ أصلاً لبلبلة
الأوضاع الاجتماعية، وخرق الأعراف الطاغوتية، وتحطيم الأصنام السياسية، وقلب
القواعد القانونية المستقرة رأساً على عَقِب. لقد خُلِقَ لتعكير صفو مَنْ عكَّروا
الوجود الإنساني بسكونهم، ثم بتكريسهم هذا الركود حتى أَسِنَت البيئة بخمودها
وأنْتنَت. وإنَّ من يُعكر صفو "الاستقرار" الموهوم، على من اختلقه وعلى
من ينصاع له من البشر جميعاً؛ لن يعتبره
المجتمع مواطناً صالحاً (أي عبداً خانعاً
لرسومهم!)، وإنما سيُعدُّ خارجيّاً، أو ساحراً، أو عدوّاً للدولة والمجتمع؛ إنه "زنديق"،
تنطلي عليه كافَّة الأوصاف التي تُخرجه من دائرة "الرحمة" المجتمعية إلى
دائرة سخط أهل السلطان وقافتهم وحواشيهم، من شتى الطبقات. وأكثر الخلق أتباعٌ لمن
يُسوّغ القعود ويُزينه لهم؛ ففيه "راحة" طوباوية موهومة من تكاليف
الحركة.
ومهما
انطوى هذا الفرد الاستثنائي على الخير، وفاض به وجدانه؛ فمثله لا يمكن أن يصير "مواطناً
صالحاً" أبداً، يدور مع القطيع حيثُ دار. بل إن الخير الذي يحمله يدفعه دفعاً
إلى الاتجاه العكسي؛ إلى السباحة المنهكة عكس التيار، فهي رغم ألمها وشدَّة
إنهاكها؛ أقل وطأة على نفسه من قيود ما أنزل الله بها من سلطان، وعبودية دون
عبودية الله. وإذا كان المجتمع ينظُر إلى مثل هذا النبي أو الولي، أو المصلح أو
الزعيم -خصوصاً إبَّان طور استضعافه- على أنه "زنديق"، فإن مرجع ذلك إلى
وقوف أبصارهم الكليلة على يده التي تُحطم الأصنام، وقلبه الذي يصرُخ: لا إله.. ولو
أخرجوا أصابعهم من آذانهم؛ لاخترقتها بقية الجملة: إلا الله! فإن هذا الإنسان يبدأ
"زنديقاً" كافراً بكل إله زائف، قبل أن يمُنَّ الله عليه بالتسليم للإله
الواحد الأحد، بعدما حطَّم ما شاء الله له أن يحطم من أصنام؛ فيدخل بذلك في زُمرة
أولياءه تعالى، الذين يُصلحون ولا يُفسدون.
جوهر التكليف وحقيقته، هو: كمون المصلح الولي في كل بشري مُكلَّف، مع اختلاف في الدرجة والمقدرة. أما نوع الميل إلى الحق، والرغبة في نُصرته؛ ففطرةٌ أصيلة لا ريب فيها. فإن كل "مواطن صالح" كان في بادئ أمره وليّاً لله، يصبو بفطرته إلى نُصرته سبحانه وتعالى
وعندنا
أن جوهر التكليف وحقيقته، هو: كمون المصلح الولي في كل بشري مُكلَّف، مع اختلاف في
الدرجة والمقدرة. أما نوع الميل إلى الحق، والرغبة في نُصرته؛ ففطرةٌ أصيلة لا ريب
فيها. فإن كل "مواطن صالح" كان في بادئ أمره وليّاً لله، يصبو بفطرته
إلى نُصرته سبحانه وتعالى -بإصلاح شأن عباده- ثم قُمِعَ هذا فيه وكُبِتَ نبتُه،
وبُترت إمكاناته الإنسانية وأصوله الإلهية المجبولة. والمجتمع يفعل ذلك تلقائيّاً
إن ضَعُفَ الفرد عن إصلاحه، بإصلاح نفسه ومن يعول؛ فإن المجتمع المتثاقل يُفسده
ويكبح خيره بكابح من غير ما أمر الله به، وينتكس به إلى ما يُغضب الله؛ فيصيرُ "مواطناً
صالحاً"، يأكلُ ويتمتَّع كما تأكل الأنعام، وقد غفل عن المثوى البائس لمن
ارتضى هذه الحياة الدنيئة؛ فالنار مثوى لهم والعياذ بالله (سورة محمد، الآية 12).
هذا "المواطن
الصالح" الذي يُفضِّلهُ الطاغوت القائم بترشيد الواقع، ويحثُّ المجتمع على
حفظ خصائصه اللا إنسانية -بحُجج ورشاوى شتى- كائن براني قد ضَمُر وجوده الجواني
إلى الحد الأدنى، فتوقَّفت حركة هذا الوجود ومساعيه لتزكية
النفس وترقيتها؛ فصار
المُبتلى عبداً لـ"الاستقرار الحضاري"، والسكون الكوني البراني؛ رغبة في
نيل ما لم يُخلَق: الفردوس الأرضي (الطوبيا)! وهو في ديجور غفلته هذه، وانقلاب
تصوراته ومعاييره -إذ صار يشتهي السكون البراني المستحيل- أعمى بالكليَّة عن
السكينة الجوانيَّة الممكنة والواجبة؛ فينتهي به المطاف بأن يُمسي مُثخناً ساخطاً،
بدل أن تنضج حكمته الإنسانية بحقائق الإيمان. وكما سبق منَّا القول، فإننا نرى أن
الخلفية الطبقية تلعب دوراً محوريّاً بارزاً في بلورة هذه الذهنية/ النفسية
الممهدة للإثخان والتسخُّط؛ ذهنية السكون "الحضاري"، التي يلتصق فيها
الإنسان بالأرض توهُّماً للخير، حين يعتبر أن الدنيا دار "سلام" براني
لا دار مكابدة وحرب وجهاد مكتوب، أو يعتبر أن هذا الصراع محدود بحدود الحركة داخل
نظام مستقر أصلاً.
إذا كان الوجود الاجتماعي الحضري الحديث مدينٌ لتنامي البورجوازية الصغيرة، حتى صارت هي القاعدة السكانية الأكبر في الدول التي سبقت إلى التحديث؛ فإن هذه البورجوازية عينها كانت هي الطبقة الأم، التي أفرَزَت -إفرازا مباشراً وغير مباشر- ما سمي لاحقاً بـ"الطبقة الوسطى"
وإذا
كان الوجود الاجتماعي الحضري الحديث مدينٌ لتنامي البورجوازية الصغيرة، حتى صارت
هي القاعدة السكانية الأكبر في الدول التي سبقت إلى التحديث؛ فإن هذه البورجوازية
عينها كانت هي الطبقة الأم، التي أفرَزَت -إفرازا مباشراً وغير مباشر- ما سمي لاحقاً
بـ"
الطبقة الوسطى" الحضريَّة -وأفرادها من التكنوقراط- والتي حملت صورة
ما غُذِّيَت به من قيم المجتمع المدني "الجديد"، وجاهدت للإبقاء عليها،
حفاظاً على مصالح الطبقات الثرية التي توظِّفها، وعلى هيمنة أصحاب السلطة السياسية
التي تُخادعها بمعسول القول!
لهذا،
فإن النبي أو الولي، أو المصلح أو الزعيم؛ لا يكون من "طبقة وسطى" همها
إدارة الواقع والحفاظ على صورته التي يخلقها غيرها، وإنما يكون من طبقة فقيرة
ماديّاً استغنَت بشرف قديم، وأخرجها فقرها هذا من الهرمية؛ فجعلها قادرة على
الحركة الحرَّة خارجه، أو يكون من طبقة ثريَّة ماديّاً؛ فهي تصنع بمكانتها وثروتها
شكل الهرمية وقيمها، أو تُسهِم في صنعها؛ ثم توظِّفُ الطبقة الوسطى للحفاظ عليها
وإدارة عوائدها. وهذا ما يُميز المدير الموظَّف، الذي يكون منه الوزير والمسؤول
والسياسي والرئيس -التكنوقراط الحديث!- عن النبي أو الزعيم أو المصلح، الذين
يعتمدون على دعوة أو مال أو عصبيَّة أو شخصية ممتازة؛ لبناء واقع جديد.
وعليه،
كانت الطبقة الوسطى -والبورجوازية الصغيرة والمتوسطة- لعنة مُحقَّقة على أي مجتمع،
يبغي الحراك للخروج من أيَّة أزمة تخنقه؛ سعيّاً لبناء واقع جديد. فهي ليست كافرة
بالنواميس الثلاثة التي بيَّناها وبيَّنا مقتضياتها -في المقالين السابقين- وإنما
هي كافرة بطلاقة هذه النواميس، وتُجاهد ما استطاعت لمحاصرة العمل بها داخل
النطاقات المحافظة التي تفرضها على الاقتصاد والسياسة والاجتماع. وهذا هو سبب
انخداع الكثيرين بهذه الطبقة، بوصفها تنبني أصلاً على تكريس الحراك؛ إلا أنها
تُكرس الحراك الانتهازي الذي ينتفع بالواقع كما هو، لا الحراك الذي يُمكن أن يُعيد
بناء هذا الواقع على أسس جديدة. وعليه، فهي تبعٌ في ذلك لإدراك الكافر الأصلي لهذه
النواميس، بعد إذ استورَدَت منه أنماطها في الاجتماع والاقتصاد والسياسة.
فهي
تؤمن -مثلاً- بأهميَّة أداء ثمن ما تحصُل عليه داخل النظام المستقر وهرميته، لكنها
كافرة بفكرة استبدال النظام بأسره، إذا انحرفت وجهته ونكل عن وظيفته، ودع عنك أداء
ثمن هذا الاستبدال، فإن النظام الحالي عندها هو قمَّة "التقدُّم" ومنتهى
"الحضارة"، وأبدع ما كان وما سيكون! وبهذا، فهي تصنع من الواقع المتردي
فردوساً أرضيّاً متوهَّماً، أو على الأقل تغرس الوهم بإمكانه، وأنه في طور
التحقُّق، وما علينا إلا الانتظار و"الاجتهاد" داخل النسق حتى نفيد منه
يوماً كما يُفيد صُنَّاعه، وهو وهمٌ مُضِل مُبين! وهذا ما يدفعها لتشويه المقتضى
الأخير من مقتضيات النواميس الثلاثة، كما شوَّهت الأولين؛ فإن التعمير عندها يصير
تعميراً برانيّاً للأرض بالمباني والمصانع الشاهقة، وليس تعميراً للنفس في الأصول
وفي الفروع. فإن زكاء النفس -عندهم- لا أهمية له ولا اعتبار في تحقيق الفردوس
الأرضي، وإنما المناط هو حجم ما تحققه في الوجود البراني من "منجزات" تنعقد
عليها اليد ويمتلئ منها الجيب.
التشوه للمنطلقات وللمقتضيات، يجعل إدراكها للنواميس ومجالات اشتغالها شديد التشوه، شديد الاختزال، شديد الانحراف في مآلاته. فإن الرضا عن الله وبه -وأداء ثمن ما تنال- يصيرُ رضا عن النظام وهرميته، ثم يرتكس نفي الطوبيا إلى تكريس شبه كامل لأوهامها
هذا التشوه للمنطلقات
وللمقتضيات، يجعل إدراكها للنواميس ومجالات اشتغالها شديد التشوه، شديد الاختزال،
شديد الانحراف في مآلاته. فإن الرضا عن الله وبه -وأداء ثمن ما تنال- يصيرُ رضا عن
النظام وهرميته، ثم يرتكس نفي الطوبيا إلى تكريس شبه كامل لأوهامها، ومحاولة لمحو
مبدأ التعاور والتبدُّل والحركة والسيولة، ومحاصرة مجال اشتغاله داخل الطوبيا -وبآلياتها
الكفرية- لينشغل الإنسان وقلبه بوهم الفردوس الأرضي عن حقيقة الفردوس القلبي، ويُسقَط
مبدأ الخُسر من منظومة القيم الحاكمة، حتى يصير التعاطي معه مأساويّاً ورفضه
طوباويّاً طفوليّاً عنيفاً؛ يؤدي إلى الإلحاد والتمرُّد على الألوهية.
هذا التشويه الذي تمارسه
الطبقة الوسطى -ومَن يوظِّفها- يُكرس مفهوماً شركيّاً زائفاً للحركة، يُقيدها داخل
الطبقة، وداخل النظام الاجتماعي- الاقتصادي- السياسي، وداخل النطاق الجغرافي
للدولة القومية، وهو أحد أهم أسباب تشوه تصورات الإسلاميين (والمسلمين!) إبَّان
النصف الثاني من القرن العشرين.
وانطلاقاً مما سبق، نرى
أن أعظم آفات الطبقة الوسطى، التي أمكننا تجريدها من هذا النظر؛ ثلاث، أولها؛ أن كل شيء عندها يُنجَز مرَّة واحدة فحسب، فهو إنجاز نهائي قاطع لا عودة بعده؛
فالإنسان يُبنى مرة واحدة فحسب من خلال التعليم النظامي، والمجتمع يُبنى مرة واحدة
فحسب من خلال سياسات الدولة، والدولة تُبنى مرة واحدة فحسب بأهواء آباء الدول
القومية الحديثة وورثتهم من القائمين بترشيد الواقع، وعليه؛ كان من العجيب -عندهم!-
أن يكون الإسلام نفسه بحاجة لإعادة بناء في النفس كل حين! وثانية هذه اﻵفات؛
أن كل إنجاز نهائي يجب أن يكون إنجازاً له انعكاس براني آني، وإلا فهو ليس بإنجاز،
ما دامت ثماره لا تنعقد عليها اليد. إن ما يُنجز في النفس -وفي تربيتها وتزكيتها- لا
اعتبار له على الحقيقة، وإن تشدق به جمهرة من المتدينين! أما ثالثة هذه اﻵفات؛
فهو مآل طبيعي ونتيجة منطقية لما سبق، وهو أن كل إنجاز براني يجب أن يُفضي إلى ما
بعده من إنجازات، وذلك بحسب النموذج الشِركي، الذي تقوم هذه الطبقة على حفظه بأمر
من يوظِّفها. فهو تسلسل له منطقه الخاص، وتراتبيته؛ التي تجعل منه إلهاً حقيقيّاً،
وليس مجرد منطق حركي!
twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry