كتاب عربي 21

مرحبا بكم في الحظيرة

جيتي
(نقط وحروف)

لم تعد سوريا إلى جامعة الدول العربية، الجامعة العربية هي التي عادت إلى سوريا، وفي هذا الإجراء (العادي والمتوقع) دلالة واضحة وفاضحة، ملخصها أن الرفيق بشار كسب المعركة على كل الجبهات، ليخبرنا بما نعرفه ويفطر قلوبنا: الأنظمة تكسب كل معاركها، ما دامت هذه المعارك مع شعوبها..

منذ صيف الألفين، ارتقى بشار سدة الحكم بوراثة "الإقليم الشمالي"، وكانت صيحات المعارضة للوراثة السياسية عالية بما يكفي في الإقليم الجنوبي، لمنع توريث جمال مبارك، والحال نفسه كان في الجارة الليبية التي صارت بالفعل تحت حكم الأنجال بقيادة سيف الإسلام القذافي.

ولما قامت القيامة في ربيع 2011، كانت التوابع متباينة في مظهرها الخارجي، فقد سقط سيناريو التوريث في مصر، وتلاه سقوط "العزيزية" بمن فيها، وغنّى المحتجون لبشار: أيام الحكم معدودة.

وفي تلك الأيام "الخدّاعات" التي ينطق فيها الرويبضة، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين العام لجامعة الدول العربية، ساهمت المنظمة الثورية العربية في إسقاط القذافي عن طريق قرار لطيف مزدوج الصياغة تطالب فيه الجامعة بحظر جوي فوق ليبيا لحماية حياة المدنيين، والترجمة الفعلية للقرار كانت: مرحبا بطائرات الناتو في السماء العربية بدعوة من جامعة العرب. وبعد تدمير ليبيا وتحويلها إلى حقل نفط شائع بلا أسوار، اصطادت الطائرات الفرنسية موكب الديك الرومي، وقدمت جثته للمعارضة المسلحة لزوم التصوير و"راكورات" الإخراج الفني لمشهد القضاء على الطاغية الكاريكاتوري، فالحاكم الشعبي الذي كان يحارب بحجة أنه يحمي شعبه أيضا، ظل يحذر من دعوة الثورة ويشير على المحتجين قائلا: ها دول قاعدة.. سنطاردهم شبر شبر.. دار دار.. زنجة زنجة.

تنحاز الجامعة لممولها، فهي جامعة دول.. جامعة أنظمة وليست جامعة شعوب، وبالتالي حصل الممولون على ما يرغبون من قرارات تتماشى مع "السلام العالمي"، ففي ربيع 2011 (آذار/ مارس) تم ذبح ليبيا بـ"طلب رحمة" من موسى وجامعته، وفي خريف نفس العام تم طرد سوريا من "بيت العرب" انتقاما من قمع النظام للشعب

ومما لا يجب أن ننساه أن ملك ملوك أفريقيا كان قد انبطح تماما لأمريكا قبل ذلك بسنوات، وتنصل من الإرهاب وخطف الطائرات، وخلع رداء العروبة وانتقد جامعتها المهيوبة، ولم يعد له أنياب تخيف الغرب الغادر من مؤامرات تعكير السلام الدولي، لكن الجامعة العربية لا تغفر ولا تنسى فردت على الانتقاد بالانتقام، وجعلت من ليبيا عبرة على الطريقة العراقية وأسوأ..

(فرعون اسمه موسى)

في تلك "السنوات الخدّاعات" كان شعبان عبد الرحيم يحب عمرو موسى ويكره إسرائيل، ويحلم بأنه في "يناير" خلاص هيشيل حديد، ويبتدي عهد جديد..

ضحكت ضحكة المتنبي من كافور وأنا أستمع إلى مقطع من كلمة عمرو موسى في "الحوار الوطني"، وعلقت بما يشبه عنوان رواية لا تنتهي: "أبداً.. لن يموت الزمّار"..

في كل حفل عادة ما يظهر الزمّار ليؤدي "نمرته" وينال الإعجاب.. في زمن الموات المباركي يدفئ الزمار الساحة الباردة بألحان ساخنة عن الصراع العربي الصهيوني، لنكتشف بعدها أن هذه الفترة شهدت أعلى وتيرة من بناء المغتصبات الصهيونية على أراضي الفلسطينيين، وتحت غبار الحرب الدائرة بين الشعوب والأنظمة في الربيع العربي، تنحاز الجامعة لممولها، فهي جامعة دول.. جامعة أنظمة وليست جامعة شعوب، وبالتالي حصل الممولون على ما يرغبون من قرارات تتماشى مع "السلام العالمي"، ففي ربيع 2011 (آذار/ مارس) تم ذبح ليبيا بـ"طلب رحمة" من موسى وجامعته، وفي خريف نفس العام تم طرد سوريا من "بيت العرب" انتقاما من قمع النظام للشعب..

استمر طرد سوريا من الجامعة أكثر من 11 عاما لم يحدث فيها أي شيء لبشار ونظامه، ظل طبيب العيون في قصره يأكل الخبز السويسري بينما ملايين السوريين يكافحون الجوع والغربة في المنافي، ويكافحون القمع والقصف في بلاد لم تعد كالبلاد.

وفي سنوات الخصام تقدم موسى لسباق الرئاسة في مصر، فاكتشف أن شعبان عبد الرحيم خدعه ولم يكن يحبه بما يكفي، والمصير نفسه ناله حزب "المؤتمر" الذي أسسه العجوز الطموح تيمنا بتسمية "الكونجرس"، فلم نسمع للحزب صوتا ولا صيتاً، وبين الفينة والأخرى يطل موسى ليعزف لحناً يسلي الجمهور الملول في فواصل الانتظار، وعندما تنتهي "النمرة" ويستفيق الناس من نشوة العزف، يبدأون في الأسئلة: لماذا فعلت كذا يا موسى؟

يقول الساحر: لم أفعل.. لقد كنت أطالب بحماية المدنيين، لم أفعل.. لقد كنت مع الثورة ضد القمع، لم أفعل.. فأنا ضد حبس الناس على الهوية بسبب الرأي.. أفرجوا عن الجميع..

عزيزي موسى.. أتمنى لو أصدق كلامك اللطيف (دائما)، لكنني لم أعد أصدق البكاء لأنني (خلاص).. من أول يناير عرفت بالأدلة القاطعة مَنْ سرق المصحف.

(حظر يحظر فهي حظيرة)

ثارت ضدي ثورة "نظامية" لما كتبت مقالا قبل سنوات بعنوان "جلافة سعودية" في صحيفة "التحرير" المصرية، والغضب كان يتعلق بطريقة تعامل السعودية المهين مع خليفة عمرو موسى (الأمين العام لجامعة العرب نبيل العربي).. كان الرجل خادما مطيعا للتوجهات السعودية والخليجية عموما، وكان يسعى لتغيير ميثاق الجامعة ليضيف عليه ما يشبه البند السابع في القرارات الأممية، بحيث تكون قرارات الجامعة ملزمة للدول الأعضاء، وهذا قد يستدعي تشكيل قوة عسكرية تشبه "ناتو عربي" لكي لا نتعب "الناتو الغربي" في التدخل ضد أنظمة مثل ليبيا وسوريا والصومال وخلافه. وبعد سنوات من الخدمة المطيعة وتنفيذ التوجهات غضبت الرياض على "العربي"، وقررت الإطاحة به وعدم التجديد له، وتم التعامل معه بأسلوب مهين حتى أمام الأضواء.

وكنت قد استفسرت من بعض الدبلوماسيين عن خلفية الغضب، وعن وسيلة الضغط التي تستخدمها دولة واحدة لتسيير المنظمة العربية الجامعة حسب إرادتها، وكان السبب الرئيس الذي يحكم الجميع كبارا وصغارا هو "التمويل"، فالسعودية تدفع النصيب الأكبر في الميزانية المخصصة بالأساس لرواتب وبدلات سفر الأمين العام والعاملين في الجامعة. وبالطبع يتسق التحكم السعودي في الجامعة مع توجهات "الإدارة الأمريكية"، فالرياض هي الوكيل المحلي المباشر، الذي يمكن الاعتماد عليه في إخضاع المنطقة (وليس الجامعة فقط) لأوامر البيت الأبيض..

لهذا شعرت بعنجهية الجلافة عندما تعمّد خادم الحرمين أن ينصرف ومعه "كل رجال الملك"؛ بمجرد أن صعد أمين الجامعة لإلقاء كلمته في مؤتمر تنظمه الجامعة وتترأسه مصر والأمين المصري.. حتى كاميرات التلفزيون تركت المتحدث عاريا وصوّبت عدساتها على مشهد الانصراف، لتنقل خبرا (لم يصدر بعد) عن نهاية العربي كأمين للجامعة واستبداله بموظف آخر..

هذا المشهد التلفزيوني وثيقة بصرية دامغة تكشف لنا "الماكينة" التي تدير النظام العربي وتهيمن على حركته ومساراته، وتطبخ قرارات السماح وقرارات الحظر، وبالتالي إذا كانت هذه "الماكينة" قد طردت سوريا قبل 11 سنة لأسباب تتعلق بالأساس بالصراع السعودي الإيراني وما استجد في اليمن بعد "ربيعه الدموي"، فمن المنطقي أن ينتهي "الحظر" على سوريا بعد التقارب الإيراني السعودي (مفيهاش حاجة أبداً.. رجعوه)..!

كانت هذه "الماكينة" قد طردت سوريا قبل 11 سنة لأسباب تتعلق بالأساس بالصراع السعودي الإيراني وما استجد في اليمن بعد "ربيعه الدموي"، فمن المنطقي أن ينتهي "الحظر" على سوريا بعد التقارب الإيراني السعودي (مفيهاش حاجة أبداً.. رجعوه)..!

هذا الأسلوب في العمل أوحى لي بالربط بين ما يحدث على ملعب المنطقة (منطقة الشرق الأوسط الجديد) وبين ما يحدث من متغيرات ظاهرية تلعب فيها الأنظمة المعنية لعبة الحظر والسماح: تحديث.. انفتاح.. إصلاح.. حوار.. حقوق نساء وحقوق أطفال وحقوق سجناء.. إلغاء طوارئ.. دعوة المحظورين لدخول الحظيرة!

والحظيرة كما نعرف هي مكان مسوّر يتم فيه تحديد الحركة بحسب إرادة الراعي المسيطر، ولا يهم أن تكون الحظيرة دولة أو منظمة أو خيمة، فهي في حقيقتها "سجن" حتى لو كان بحجم وطن، أو كما قال زوربا للمثقف باسيل: لست حراً، كل ما في الأمر أن الحبل المربوط في عنقك أطول قليلاً من حبال الآخرين..

في الحظيرة ستستمتع بحبل أطول، وربما بقمع أقل، وسوف يتيسر لك أن تستمتع بألحان الزمّارين الذين يتحدثون عن الانفتاح والإنجازات ورفع سقف الحرية، ويفرحون بلم الشمل العربي وعودة سوريا إلى بيتها، فلا خوف من أن يحدث ذلك كله، ما دام الجميع في الحظيرة..

tamahi@hotmail.com