طرحت العديد من الأفكار بشأن الأوضاع في
أفريقيا، وما تزال المحن
والحروب تفتك بشعوب القارة السمراء، فيما تستمر حالات التمرد على الجيوش الوطنية
المغموسة في الانحيازات السياسية، وتضرب الانقلابات العسكرية على أنظمة ديمقراطية
هشة، أو مشكوك في نزاهتها وتبعيتها للخارج، بينما كبار الجنرالات غير عابئين
بمبادئ الاتحاد الأفريقي، أو متدثرين بثوب معاداة الاستعمار، وتفكيك أفكاره حول
الديمقراطية ومناظير الليبيرالية.
في خضم الحرب المشتعلة في السودان، والانقلاب المستمر في النيجر،
وآخر في الغابون، يبحث كثير من المراقبين عن منظور سياسي لفهم ما يجري في هذه
البلدان الأفريقية، فيما يوفر
الكتاب الذي أصدره "أليكس دي وال" الباحث
البريطاني الخبير في الشؤون الأفريقية والسودانية على وجه الدقة، مدخلا مختلفا عن
السائد في التنظير السياسي والاجتماعي والاقتصادي لأفريقيا، فهو كتاب يستند على
مفهوم الاقتصاد السياسي، لتحليل أوضاع الحكم والسياسة في المجتمعات الأفريقية،
ويجترح مفهوما يطلق عليه "سوق الأعمال السياسية"، وهو نظام حوكمة معاصر
تمارس فيه السياسة عبر تبادل الخدمات السياسية، أو الولاء السياسي مقابل العائد
المالي، أو منح التراخيص.
في هذه السوق، "العنف هو أحد آليات عقد الصفقات، والذي عبره
يستطيع لاعب ثانوي أن يطالب بحقوقه، أو يحاول أن يساوم لسعر أعلى، ويمكن لحاكم أن
ينازعه في حقوقه، أو أن يدفعه ليخفض سعره، ويمكن استعمال العنف، لمحاولة الإضرار
أو تدمير الداعمين لغريم أو مطالب، وعليه تنخفض قيمته في السوق، ويمكن أن ينشأ
العنف من خطأ، فقد يخطئ مدير أعمال سياسي في الحكم على السوق، أو قد يخطئ قراءة
غرمائه".
الكاتب عمل مستشارا للاتحاد الأفريقي، وهو المدير التنفيذي لمؤسسة
السلم العالمي، وأستاذ الأبحاث في كلية فليتشر للدراسات العليا للشؤون العالمية
بجامعة تافتس، وقد حوت أعماله العديد من القضايا الأفريقية مثل الأزمات الإنسانية
ومرض نقص المناعة البشرية الإيدز وطبيعة الحكم في أفريقيا والنزاعات وبناء السلام.
يضع الكتاب الحالة السودانية نموذجا فاعلا لممارسة مفهوم نظام سوق
المال السياسي، وهو ذات المنهج السياسي المتبع في دول أفريقية أخرى، وفي مناطق
مختلفة من العالم، وصدرت عن الكتاب نسخة مترجمة باللغة العربية من إصدارات مركز
تأسيس للدراسات والنشر في الخرطوم، وقام بترجمته للعربية الحارث عبد الله.
وقام الكتاب
الذي يقع في 236 صفحة، ويحمل عنوان منهجه التحليلي "المال والحروب وإدارة
أعمال السلطة.. السودان كسوق أعمال سياسية"، هو مختارات من أبحاث إليكس دي
وال في أفريقيا، منذ أن بدأ الباحث رحلته الأفريقية من السودان عام 1985م، وكانت
بحوثه الأولى تركز على إقليم دارفور غرب السودان، وأصدر في هذا الخصوص كتابا
بعنوان "المجاعة التي تقتل: دارفور السودان"، استند فيه على عمله البحثي
لنيل درجة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا الاجتماعية من جامعة أوكسفورد، وكتابا
بعنوان: "دارفور: تاريخ جديد لحروب طويلة" بالاشتراك مع جولي فلييت، إضافة إلى أعمال بحثية ودراسات أخرى.
يضع الكتاب الحالة السودانية نموذجا فاعلا لممارسة مفهوم نظام سوق المال السياسي، وهو ذات المنهج السياسي المتبع في دول أفريقية أخرى، وفي مناطق مختلفة من العالم، وصدرت عن الكتاب نسخة مترجمة باللغة العربية من إصدارات مركز تأسيس للدراسات والنشر في الخرطوم، وقام بترجمته للعربية الحارث عبد الله.
ويشمل الكتاب، قضايا معاصرة في الشأن الأفريقي والسوداني على وجه
التحديد، فهو يتضمن عملا بحثيا تحليليا لما بعد عزل نظام الرئيس السوداني عمر
البشير، فقد أصدر في أغسطس عام 2019م
مقالا بعنوان: "المال والتناقضات: حول حدود تأثير دول الشرق الأوسط"،
وورقة أخرى بعنوان: "السودان: تحليل من منظور نموذج الأعمال السياسي".
يعتبر الكتاب أن القرن الأفريقي يمثل سوق أعمال عسكريا وسياسيا متقدما،
ويتميز بانتشار السعي نحو الريع والمحسوبية والرعاية النقدية مع استعمال العنف
بشكل روتيني كأداة لاستخراج الريع، وأنه سوق مندمج مع الدوائر الإقليمية
والعالمية للتمويل السياسي.
ويقدم شرحا لنظريته السياسية بصورة ملخصة عندما يشير إلى عبارة
مرسومة على الشاحنات وسيارات الأجرة في غرب أفريقيا: "لا وضع يدوم"، أي
"الاضطراب" أو عالم غير مستقر، وهو "مصطلح مأخوذ من ديناميكا
الموائع، والذي يشير إلى الطريقة التي يكون فيها النظام غير متوقع فوضويا من لحظة
إلى الثانية، ويفتقر إلى نمط قابل للتمييز، ولكنه لا يزال يحتفظ ببنية قابلة
للإدراك على مدى زمني أطول".
يشير إلى أن مفهوم السوق السياسي "يعمل على مستويين كإحدى
الخصائص العامة للحياة السياسية في كل مكان، وكمكون مركزي في السياسة في الأسواق
المتقدمة، يتضمن كل نظام سياسي صفقات بين الأفراد يتم فيها التبادل للعوائد مقابل
التعاون، وبعض هذه المعاملات التي تنطوي على خدمات / ولاء / موارد / تراخيص وإكراهات
/ تهديد / مصنفة على أنها فساد، والبعض الآخر يعتبر معاملات مشبوهة مباحة".
ويضيف في الفصل الأول: "يمكن للأسواق السياسية أن تزدهر خلف
واجهة الدولة المؤسسية، عندما تدخل دولة قوية مثل حكومة سلطوية محكمة التنظيم في أزمة،
فقد تتحول إلى سوق أعمال سياسي متقدم بدلا من التحول نحو الديمقراطية".
ويعتقد بأن "أنظمة حكم الأسواق السياسية المتقدمة تجرى فيها
الأعمال السياسية عبر التبادل الذي يعد سمة مركزية، ويتم تحديد أسعار سلع التعاون
والولاء من خلال
العرض والطلب، ويتم تخصيص الموارد وفقا لذلك، وبالتالي تفهم
اتفاقات السلام وإنهاء النزاع بين الجماعات المتمردة والأنظمة السياسية وفقا
لمفهوم المساومة الاقتصادية لسوق الأوراق المالية في البلدان الأفريقية".
لكن الكتاب يشترط لهذا النوع من الأنظمة السياسية "أن يكون
التمويل السياسي في أيدي أفراد لهم مصالح سياسية أو عسكرية أو تجارية، وهنا قد
يظهر لقارئ الكتاب نموذج قائد قوات الدعم السريع في السودان الفريق محمد حمدان
دقلو المعروف بـ "حمديتي"، الذي حاز على مقدرات مالية ضخمة، ويخوض حاليا
حربا ضد الجيش الوطني الذي نشأ تحت رعايته".
ويشير الكتاب إلى ضرورة أن يتوفر شرط لمفهوم هذا النوع من الأنظمة
السياسية يتمثل في "أن تكون السيطرة على أدوات العنف مشتتة أو متنازعا عليها،
وأن لا تتم تسوية النزاعات السياسية عبر القواعد والإجراءات المؤسسية (أي أن
القانون يكون خاضعا للإمكانات السياسية)، بالإضافة إلى أن تكون هذه البلدان مندمجة
في النظام السياسي والاقتصادي العالمي في وضع التبعية، ويمكن فهم هذه المسألة
بالنظر إلى ما يجري حاليا في دول مثل النيجر والجابون والاتهامات الموجهة للغرب في
التدخل السياسي، والتبعية الاقتصادية".
يقول الكتاب: "إن معظم البلدان التي تنطبق عليها الشروط
السابقة، تكون في حالة نزاع، أو هي عبارة عن بلدان تستمر فيها نماذج وشبكات
الأعمال السياسية الخاصة بأوقات الحرب في الازدهار، حتى في فترة نظام ما بعد
الحرب، ويوضح بأن هذا النموذج شكل من أشكال الحكم المعاصر وليس بقيمة نماذج قديمة
أو نظاما انتقاليا مقدرا له أن تحل محله دولة فيبرية مثالية، كما هو أيضا نظام مرن
وديناميكي، كما أنه نتاج للتاريخ الحديث، وتحديدا العولمة الاقتصادية
والسياسية"، وعمليات التسييل المختلفة.
"سوقنة" السياسة في السودان بدأت في فترة السبعينات في القرن العشرين، عندما توجه الرئيس جعفر نميري لدول الخليج الغنية حديثا بفعل النفط وللمتبرعين في الغرب لأخذ قروض لمشاريع تنمية، وقبل ذلك الوقت "كان الاقتصاد السياسي للسودان مسيطرا عليه بواسطة أربع مجموعات سياسية اقتصادية متنافسة حزبان طائفيان يتأسسان على مصالح طبقة التجار في التجارة والزراعة، والعمال المنظمون المستقرون في السكة الحديدية والزراعة المروية والجسد البيروقراطي للدولة وقطاع منبثق غير رسمي مرتبط بصعود خدمات التمويل الخاصة".
ويشير إلى أن فهم سوق الأعمال السياسي يتطلب "إدراك مهام
واستراتيجيات أولئك الذين نجحوا فيه أو ما يسميهم الكتاب برواد الأعمال ومدراء الأعمال
السياسية، وهم السياسيون الذين يمتلكون موهبة وقدرة أكثر من غيرهم ويستخدمون عدسات أصحاب الأعمال، وبالتالي فإن نماذج الأعمال ستكون دليلا مفيدا لفهم أنظمة الحكم
هذه وكيف تتغير".
وفي الفصل الثاني يقدم الكتاب دولة السودان كنموذج تطبيقي لسوق الأعمال
السياسي، موضحا بأن "الرواية السائدة في التاريخ السوداني لفهم هذا البلد هي
منظور
صراعات الهوية وحروب الرؤى"، لكن الكتاب يختار مدخلا مختلفا وهو النظر
إلى الميزانيات الحكومية، التي يصفها بأنها تشبه "أعمال السحر
والشعوذة"، لكنه يلاحظ بأن الميزانيات وحجمها كانت عاملا حاسما في إجراء
الصفقات السياسية وتسوية النزاعات وإنهاء الحروب بين رواد الأعمال في نظام الحكم
السياسي، ويشير إلى أن الكتاب لا يغفل عاملا مهما مثل طوبوغرافيا الثروة والإدارة
باعتبارها نقطة انطلاق أخرى لفهم السودان، بالتفاعل مع الاجتماع المالي للتمويل
السياسي.
ويرى أن "سوقنة" السياسة في السودان بدأت في فترة
السبعينات في القرن العشرين، عندما توجه الرئيس جعفر نميري لدول الخليج الغنية
حديثا بفعل النفط وللمتبرعين في الغرب لأخذ قروض لمشاريع تنمية، وقبل ذلك الوقت
"كان الاقتصاد السياسي للسودان مسيطرا عليه بواسطة أربع مجموعات سياسية
اقتصادية متنافسة حزبان طائفيان يتأسسان على مصالح طبقة التجار في التجارة
والزراعة، والعمال المنظمون المستقرون في السكة الحديدية والزراعة المروية والجسد
البيروقراطي للدولة وقطاع منبثق غير رسمي مرتبط بصعود خدمات التمويل الخاصة".
في هذا الخصوص يتتبع الكاتب مناسبات
عقد اتفاقات السلام منذ اتفاقية 1972 بين حركة التمرد الرئيسية في جنوب السودان
وبين نظام الرئيس الأسبق جعفر نميري (1969 ـ 1985)، وحتى اتفاقات السلام المبرمة
مع الحركات المسلحة في إقليم دارفور، موضحا بأن الريع النفطي كان عاملا حاسما لدفع
رواد الأعمال السياسيين من أجل توقيع اتفاقية السلام الشامل بين شمال وجنوب
السودان عام 2005م، ويشير إلى أن زيادة الميزانية الحكومية بالقروض أو بطرق أخرى
تعد الحافز الأساسي لصنع الصفقات السياسية، وفقا لمفهوم سوق الأعمال السياسي ووفقا
لمعيار العرض والطلب.
يتناول الكتاب في فصله الثالث أزمة إقليم دارفور في غرب السودان،
ويعتبرها سوق أعمال سياسيا شبه مثالي يتضمن مزادا للولاءات السياسية ذات بعد إثني،
وفي هذا الفصل يشير إلى أن السوق شهد فوضى في العرض والطلب وتدخلات دول الجوار مثل
تشاد وليبيا وإرتريا وجنوب السودان، إلى حين تدخل الولايات المتحدة لـ"تنظيم
السوق" عبر الضغط على أطراف النزاع المسلح أو "رواد الأعمال"
لتوقيع اتفاقات سلام، فيما سعت الحكومة والمتمردون من أصول عربية إلى صيغة أيضا
مثلما تم ذلك بين المجموعة التي مثلها حميدتي وبين الحكومة.
في الفصل الرابع، يتناول الكتاب المأزق الذي يواجه حكام السودان
اليوم "بغض النظر عن كونهم جنودا أو أصحاب مليشيا شبه عسكرية أو تكنوقراط
مدنيين، أو سياسيين مدنيين ـ هو أنهم لا يمتلكون الموارد المادية أو الخبرة أو
السمعة لإدارة سوق أعمال سياسي مبني على نظام مليشيا شبه عسكرية من المرتزقة ورأسمالية
محاسيب ولكن أيضا لا يملكون الوسائل لتغييره".
وجدير بالذكر أن الكتاب يحتوي تحليلا لمآلات الوضع في السودان بعد
الثورة الشبابية التي عزلت نظام الرئيس عمر البشير وقبل اندلاع الحرب الجارية، وفي
هذا الجزء "اقترح منظور سوق الأعمال السياسي أن الخيارات للسودان، تقع بين
عدد من الطرق التي يمكن عبرها تنظيم سوق الأعمال السياسية، أما حكومة لصوص مركزية
فعالة، أو احتكار قلة تواطئية / تنافسية، أو منافسة حرة غير منظمة، أو خليط من هذه
الأنماط، منبها إلى عناصر تتكون منها الساحة السودانية مندمجة مع سوق الأعمال
السياسية في المنطقة العربية والأفريقية".
يرى أستاذ العلوم السياسية المرموق حسن الحاج علي الذي كتب تقديم
الكتاب، "على الرغم من الجهد المبذول من أنصار مدخل السوق السياسي، وعلى
رأسهم اليكس دي وال في تقديم تحليل يشخص الواقع السوداني والأفريقي، وفي دول أخرى
مشابهة، إلا أن المدخل لا يمكن الاعتماد عليه وحده في تفسير وفهم أوضاع تلك الدول،
وذلك لأن اتباع الواحدية في التفسير ستدفعنا للوقوع في مزالق الاختزال، فالواقع الأفريقي
معقد لا يمكن اقتصاره على عوامل السوق وحدها، ولا يمكن أن نتجاهل عوامل قيمية
وثقافية واجتماعية في تحليلنا للواقع الأفريقي".