كان تغيير السابع من نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1987 في
تونس الذي قام به الوزير الأوّل زين
العابدين بن عليّ بانقلابه على بورقيبة، مثلَ تغيير مدرّب كرة قدم لفريق كلّ
المؤشّرات تشير إلى قرب انهياره. فقد تأجّل سقوط بورقيبة مرّتين قبل هذا على
الأقلّ: في أحداث 1978 التي تصادم فيها مع المنظمة النقابية وسنة 1984 فيما يُعرف
ب"أحداث الخبز".
كان لابدّ من حدوث أمر ما أمام الانغلاق السياسي والاقتصادي في بلد
لم يتعوّد بالانقلابات العسكريّة ولكن في الآن نفسه على هذا الأمر أن لا يخرج من
الاطار الدستوري الذي جعل من الشغور الوقتي أو الدائم لمنصب رئيس الدولة موجبا
لتولّي الوزير الأوّل مكانه. وكان لما برره بيان "السابع من نوفمبر" من
طول شيخوخة الرئيس بورقيبة ما يوجب المرور الدستوري السّلس للسلطة بحسب الفصل 57.
وكما يدخل كلّ رئيس عربي السلطة باعتباره منقذا للدولة فيعلن
"عهدا جديدا" ويظهر حسن نواياه بالإفراج عن المعتقلين السياسيين، دخل بن
عليّ ببيانه النوفمبري على النّاس. غير أنّ أكبر مغنم لهذه السلطة هي اقناع أحزاب
بإمضاء "الميثاق الوطني" في أوّل ذكرى للتغيير وهي: التجمّع الدستوري
الديمقراطي (حزب السلطة) وحركة الديمقراطيين الاشتراكيين (حزب منشق عن حزب بورقيبة)
وحركة النهضة (الإسلاميون) والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ( ذات ميولات
يسارية). والميثاق هو عبارة عن إعلان لتنظيم للحياة السياسية تحقيقا للديمقراطية
وتكريسا لحقوق الانسان.
واتصالا باهتمامنا بالحركة الاسلامية في تاريخها نشير إلى تصريح أوردته جريدة "الحرية" ليوم 17/5/
1988 لراشد الغنوشي، سيظلّ إلى وقت غير بعيد حجّة عليه يردده خصومه وهو قوله : "إنّ
ثقة الإسلاميين في الله ثم في سيادة الرئيس عظيمة". وكان يجد إلى حدّ كبير
اطمئنانا للسلطة الجديدة مما جعل أحد صقوره يشارك في الحوار الوطني ثمّ يمضي على
الميثاق الوطني باسم حركته وهو المحامي نور الدين البحيري.
لم تنتظر السلطة طويلا لاختبار حقيقتها. إذ كان لمقال جريء للصحفيّة
نزيهة رجيبة (أم زياد) نشرته بجريدة "الرأي" المستقلّة بعنوان "نشاز"،
كافيا لمعرفة نوايا بن عليّ المقبل بشراهة على السلطة. فقد تمّت مصادرة العدد
وبموجب ذلك تمّ إغلاق الجريدة وإسكات صوت المعارضة.
التهدئة الحذرة
أوّل مؤشّر للانفراج هو إطلاق سراح "الطلبة المجنّدين
قسريا" ـ وكاتب المقال أحدهم ـ في 3 ديسمبر1987 باعتبارهم تركة ثقيلة من
العهد البورقيبي أي شهرا واحدا بعد التغيير. وهو ما كان مؤشرا دالا على أنّ الرئيس
الجديد ينوي تصفية مخلّفات العهد السابق وأثقل ملفّ كان الإسلاميين الذين تعلّقت
بهم تهم "التآمر على أمن الدولة بقصد تغيير هيئتها" و"محاولة القتل
عمدا" و"إيقاد النّار عمدا في ممتلكات الغير"، بما تفضي إليه من
أحكام قاسية.
وقد تأكّدت نيّة بن عليّ في تخفيف التوتر بين القيادة الجديدة
والإسلاميين بإعلانه عفوا رئاسيا والإفراج عن كلّ الموقوفين والمُحاكَمين مع إبقاء
التحقيق للكشف عن العناصر المسيّسة في الجيش والأمن فيما عُرف فيما بعد بـ "المجموعة
الأمنيّة". وتعهّد بن عليّ أيضا بالتفاوض مع قيادات الحركة الموقوفين وكذلك
الذين في المهجر تمهيدا للإفراج عنهم وتحقيق مصالحة وطنيّة سوف تُتوّج بالميثاق
الوطني الجامع. وهكذا شمل العفو حسب ما ورد بجريدة "العمل" الحكومية
الصادرة يوم 6/12/ 1987، 2487 شخصا. وعلينا الإشارة هنا أنّ العفو قد شمل غير
الإسلاميين مثل أحمد المستيري واسقاط العقوبة على المحكوم عليهم في أحداث الخبز
و18 شخصا من "حزب التحرير".
أصبح لزاما علينا الآن أن نعود لقولتين منسوبتين لراشد الغنّوشي أولاهما:
"إنّ ثقة الإسلاميين في الله ثم في سيادة الرئيس عظيمة" وثانيتهما: "تونس
كسفينة تحمل عائلات مختلفة ومتنوّعة ولا مفرّ أن نتعايش"، وقد وردت بمجلة
المغرب عدد 101 ( 1988).
نتوقّف عند ظاهر القول الأوّل الذي يتجاوز الموقف السياسي إلى
الاستراتيجي في رأس مدبّر لحركة لم تتخلّص بعد من كوابيس السجن وقسوته فلا تجد
عيبا أو منقصة في أن تتحالف مع السلطة. ونعتقد أنّ هذا الأمر هو بمثابة تحوّل عظيم
يرسم قطيعة مع تراث الحركات الجهادية وتدخل "بيت الطاعة السياسي". ولن
نأتي بجديد إذا قلنا أنّ هذا قد انعكس بشكل مباشر على تجربة النهضة في حكومات ما
بعد الثورة. وسيكون من السهولة بمكان وسم هذه الحركة ب"الإصلاحية"
المتّصلة ب"الآداب السلطانية" و"المناصحة" وغيرهما مما ورد في
تراث يعتبر أنّ الخروج عن السلطان "فتنة".
القولة الثانية مهمّة في مستوى تطوّر أفكار الحركة التي نضجت بحكم
صراعها المرير مع العلمانية والدولة المغلقة. ونعتبر هذا أيضا من التحوّلات
المهمّة في
تاريخ الحركة الإسلامية في تونس الحديثة. ومن الطرافة هو استعارة صاحب
القول ل" السفينة" في التعبير عن تونس. ووجه ذلك هو ما يمكن أن تحيل
عليه هذه الاستعارة من حدث تاريخي أسطوري يتمثّل في " سفينة عليسة" ـ
مؤسسة قرطاج ـ القادمة من مدينة "صور"، و"سفينة نوح" التي
حملت من كلّ زوجين اثنين، وكلا السفينتين كانتا سببا في نجاة من حملت وما حملت.
ولا يعدم راشد الغنوشي مثل هذه الاستعارات في أغلب قوله كتمثيله لتحالف حركته مع
حزب "نداء تونس"(هو حزب روافد من بقايا السلطة واليساريين) في سنة 2016،
بـ "طائر يحلق في السماء بجناحين: النهضة والنداء".
وبعيدا عن المجاز الأدبي فإنّ القول يؤكّد ما قلناه سابقا من أنّ
الديمقراطية والقبول بالآخر ولو كان نقيضا سياسيا وايديولوجيا قد أصبحا ركيزتين
أساسيتين من ركائز حركة قد غادرت صفتها "الاحتجاجيّة" كما وسمها بها عبد
الباقي الهرماسي إلى صفة "الحركة الديمقراطية" حتى أنّهم اقترحوا في
فترة متقدمة ما سمّوا به أنفسهم :" الإسلاميون الديمقراطيون".
ومن ضرورات القول أن لا نغفل عن قول آخر لراشد الغنوشي لا يقل أهميّة
في تأكيد تواشج الصلة بينه وبين "مشروع 7 نوفمبر": "إنّ مساندتنا
ليست ظرفية بل مبدئية ذلك أنّنا نحسب ما اتخذ من الاجراءات لإعادة الاعتبار
للإسلام المغترب ماضيا في وطنه يجعل المشروع كفيلا بالالتفاف حوله وتعميقه" (
جريدة الحرية 17/5/1988).
المحرقة أو سنوات الجمر النوفمبري
قلنا إنّ السلطة الجديدة لم تنظر طويلا
حتى تختبر المعارضة جدّيتها في المضي قدما في التجربة الديمقراطية. وكان ذاك
الامتحان هو انتخابات الثاني من نيسان / أبريل 1989 التشريعية والرئاسية التي
سبقتها اجراءات حوّلتها إلى مجرّد خديعة سياسيّة أشرف على تنفيذها الوزير الأوّل
آنذاك الهادي البكّوش.
إنّ نجاح بن عليّ في ازاحة بورقيبة "دون إراقة قطرة دم
واحدة" والولاء السريع لحزب السلطة للجنرال الجديد بعد أن وضع "زعيمه
التاريخي" رهن الاقامة الجبرية بقصره في مسقط رأسه المنستير، لم يدخل على
قلبه الاطمئنان. فصورة الانقلاب العسكري ظلت ماثلة أمامه وافتقاده للشرعية الشعبية
الانتخابية يدفعانه إلى تلك التهدئة ليتمكّن من تدجين القضاء والسيطرة على الإعلام
ومفاصل الدولة ومنظمة الشغل من خلال وسائل الترهيب والابتزاز مرّة والترغيب وشراء
الذمم مرّات. كما حاول التسويق لصورة نظامه القائم على الديمقراطية والحرية من
خلال وسائل اعلام أجنبية كانت "وكالة الاتصال الخارجي" شُعبة من شُعبه.
بعد أن تهيّأ الأمر له أعلن عن تاريخ للانتخابات التشريعية
والرئاسيّة ودعا المعارضة إلى الاشتراك فيها. والحقيقة أنّ اجتماعات كانت تتم بين
الحكومة والمعارضة لـ "اقتسام المقاعد" حتى لا يقع خلل يؤدي إلى قلب
التوازنات. كانت الحكومة جشعة جدا في عرضها إذ اقترحت على كلّ المعارضة نسبة 20
بالمائة من مقاعد مجلس النّواب وتركت البقية لمرشّحي حزب السلطة الذي غيّر اسمه من
"الحزب الاشتراكي الدستوري" كما سماه بورقيبة إلى "التجمّع
الدستوري الديمقراطي" في 27 شباط / فبراير 1988. رفض أحمد المستيري زعيم حزب
الديمقراطيين الاشتراكيين عرض الحكومة ورآه "مفعما بالروح الدكتاتورية"
وقرر عدم الدخول في الانتخابات. في حين كانت النهضة تفاوض على تمكينها من الاعتراف
القانوني مقابل القبول بالعرض.
هل هي البراغماتية السياسيّة؟ هل هذه مخاتلة من حركة ترغب في حماية
جسمها الحركي أكثر من خوض التجربة السياسية؟ هل نعتبر هذا "تنكّرا "
لنضال أبنائها سجنا وتشريدا؟ إذا كانت غاية الحركة هو التواجد القانوني أليس أحرى
بها أن تتحوّل من حزب سياسي إلى جمعيّة خيرية أو رابطة فكرية أو أي شيء آخر؟ ثم
بأي خطاب سوف تعرض نفسها على عامّة الشعب وهي لا تزال مثقلة بالمنشور 108 الذي
يجرّم "اللباس الطائفي" ويحدّ من حركة المساجد؟ ..
أعتقد أنّ هذه الأسئلة كانت مؤجّلة عند حركة مرتبكة غاية الارتباك
أمام سلطة تبحث بواسطة خزّانها الانتخابي عن شرعيّة ومشروعية وجروح عميقة لم تندمل
بعد.
والحقيقة أنّ راشد الغنوشي يعترف في كتابه "من تجربة الحركة
الإسلامية بتونس" (ص 116) أنّ أحمد المستيري كان على حقّ في رفضه المشاركة في
تلك الانتخابات. وهذا ضمنيا اعتراف بأنّه وحركته "قد أخطآ التقدير" ولم
ينتبها لذلك إلا عند خروج النتائج وقد زيّفها القائمون على المؤامرة. فقد فاز
الحزب الحاكم ب80 بالمائة من المقاعد و17.70 للمعارضة التي يسندها الإسلاميون.
وبهذه النتيجة استطاع بن عليّ ترتيب بيته الداخلي ليعلن بعد ذلك فوزه بالرئاسة.
ولا بدّ هنا من ذكر حدث استثنائيّ في طرافته: فقد كان المنافس الوحيد لبن عليّ في
تلك الانتخابات المناضل اليساري عزالدين حزقي الذي يساهم اليوم في تأسيس
"جبهة الخلاص".
ورغم إبقاء بن عليّ على مساحة من التهدئة تمكّن فيها الإسلاميون من إصدار
جريدة "الفجر" برئاسة تحرير حمادي الجبالي فإنّ خيبة الإسلاميين من أوّل
تجربة انتخابيّة كانوا فيها ضحايا التزييف وتلكّؤ السلطة في تفعيل اجراءات العفو
التشريعي العام قد بدأت تدفعهم إلى شقّ عصا الطاعة. وفي نفس الآن لم ينس بن عليّ
للإسلاميين تنظيمهم السرّي العسكري والأمني أو "الجناح العسكري" الذي
ظلّ يراوح في أروقة المحاكم. وكان إعلان بن عليّ في خطاب ذكرى السابع من نوفمبر
أنّه " لا مجال للاعتراف بحزب ديني في تونس" بمثابة إعلان حرب على
الإسلاميين.
ومن جهتهم ضاق هؤلاء ذرعا بتهميش السلطة لهم وأعلنوا مقاطعتهم
للانتخابات البلدية التي أجريت سنة 1990 وجاهروا برفضهم لمشروع الاصلاح التربوي
الذي أشرف عليه وزير التربية آنذاك محمد الشرفي القائم على "علمنة الدولة
وتجفيف منابع الإسلام". وتحرّكت الآلة الاعلامية للنظام الحاكم للتحريض على
الإسلاميين ومرّة أخرى يجد الإسلاميون أنفسهم في مواجهة السلطة.
كانت عبارة "تحرير المبادرة" هي الكلمة السرية التي
تناقلها الإسلاميون فيما بينهم. وتعني أنّ المبادرة ب"إزعاج النظام" لا
تحتاج عودة إلى القيادة وإنّما هي من صميم تقدير الأفراد أو المجموعات. والحقيقة
أنّي لم أعثر في بحثي على وثيقة تؤكّد هذا القرار أو تنفيه ولكنّ بعض من اتصلت بهم
أكّد لي أنّها تعليمات شفويّة من عناصر في التنظيم. ويبدو أنّ حادثة "باب
سويقة" التي توفي فيها حارس شعبة تجمعيّة حرقًا كانت كافية لتصفية هذه الحركة
وإعادتها إلى المربّع الأول من الاعتقال والتشريد.