كتاب عربي 21

"آرون بوشنال".. مفاتيح الجنة ومغاليق النار

كيف لجندي أمريكي في سلاح الطيران يبلغ من العمر خمسة وعشرين عاما أن يُقدِم على حرق نفسه أمام السفارة الإسرائيلية وأن تكون آخر كلماته "لن أشارك في المذبحة" "الحرية لفلسطين.. الحرية لفلسطين"؟
هو الحدث الأبرز خلال الأيام القليلة الماضية وليس التعتيم الإعلامي الغربي القوي على الحدث إلا تأكيدا غير مباشر على أهميته والخوف من ارتداداته الكارثية على كامل البناء الغربي. الحدث على غاية كبيرة من الخطورة في العمق رغم أنه مرّ مرورا عابرا على مواقع الإعلام الرسمية العالمية عن قصد.
 
كيف لجندي أمريكي في سلاح الطيران يبلغ من العمر خمسة وعشرين عاما أن يُقدِم على حرق نفسه أمام السفارة الإسرائيلية وأن تكون آخر كلماته "لن أشارك في المذبحة" و"الحرية لفلسطين.. الحرية لفلسطين"؟ هنا يتجاوز المكان والزمان والفاعل والحدث قدرة العقل العربي على الاستيعاب.

من جهة أخرى تختلف قراءة الحدث اختلافا جوهريا بين سياقها الغربي عامة والأمريكي تحديدا وبين سياقها العربي والمشرقي لكنها رغم ذلك تفرض فهم المشهد شروطا وسياقا ومكوناتٍ وتُلزم تبيّنَ الخطوط الناظمة لهذا الفعل الإنساني الأقصى ورصدَ الحدود الفاصلة بينه وبين نفس الفعل في السياق العربي الإسلامي.

الفعل الأقصى والفعل الأدنى

أن يُقدِم الإنسان على حرق نفسه احتجاجا على أمر ما فتلك أعلى مراتب العنف وإنكار الذات لأن قيمة ردة الفعل بالنسبة للفاعل في هذه الحالة تتجاوز الفعل نفسَه مهما كان حجمه. لكنّ الفاعل في هذه الحادثة يَعتبر أنّ الموت حرقا لا يساوي شيئا مقارنة بالفعل أو الحدث الذي انْبنت عليه ردة الفعل.

هذا البناء النظري هو الذي عبر عنه "آرون بوشنال" لفظيا في الثواني الأخيرة التي سبقت إشعال جسده حين قال "إنه مقدم على فعل أقصى لكنه فعل لا يساوي شيئا مقارنة مع ما يحدث في فلسطين وأنه يرفض أن يكون شريكا في المذبحة ".

الفعل القادح لحرق الذات هي المذبحة الفلسطينية المفتوحة في غزة وهو ما يعنى أن ردة الفعل تَعتبر حرق الذات لا يساوي شيئا في نظرها مع المذبحة المفتوحة. هذا الفعل الرمزي الأقصى والمتطرف كما وصفه صاحبه لا يقارن بتطرف ما يحدث في غزة.

الدافع للفعل إذن دافع موضوعي وليس دافعا ذاتيا وهو ما يختلف جوهريا مع تجربة البوعزيزي في تونس مثلا والذي أشعل النار في جسده بدافع الغضب الذاتي ضد الإهانة والفقر والتهميش. لذا فإن المقارنة بين حالة البوعزيزي التونسي وبوشنال الأمريكي لا تستقيم في دوافعها وسياقها وبالتالي لن تستقيم في أفق توقع هزاتها الارتدادية.

يحمل الضابط في سلاح الجو الأمريكي رتبة عسكرية وهو ما يمنح الحركة الاحتجاجية بعدا آخر لا يقل خطورة عن بقية الأبعاد لأنه يحدد الجهة التي يصدر عنها الفعل أولا ولأنه يصدر ثانيا عن أداة من أدوات المذبحة في غزة بما أن الجيش الأمريكي يشارك بشكل مباشر في عمليات التغطية السياسية من جهة وفي العمليات البرية من جهة أخرى.

أما اختيار مكان الاحتجاج أمام بوابة السفارة الصهيونية فهو ما يمنح الحركة عنوان الرسالة التي تريد إرسالها والطرف المعني بها والمسؤول عن المذبحة المفتوحة في غزة، أي دولة الاحتلال.

دلالات الفعل الاحتجاجي الأقصى في سياقها الغربي مختلفة تماما عن دلالاتها وأبعادها في السياق العربي فهي ليست حركة يائسة يعاني صاحبها من غضب عارم دفع به في لحظة انقطاع إلى إشعال النار في جسده، بل هي أولا وقبل كل شيء رسالة مباشرة يكون ثمنها أغلى ما يملك الإنسان بل إن ثمنها هو كل ما يملكه أي الإنسان نفسه.

"آرون بوشنال" ثائر كوني أقصى أقدم على حركة عنيفة في سياق دموي قاتل مستنسخا عنف الواقع ومتشرّبا وحشية الفعل البشري في غزة رافضا أن يكون شاهد زور على محرقة قصوى.
الفاعل تحرك بشكل واع مرتديا بزته العسكرية واختار المكان المناسب وحافظ على البث المباشر حتى يضمن وصول الرسالة لمعرفته بالهيمنة الموجودة على الإعلام الرسمي. اختار كلماته الأخيرة بكل عناية حتي يقطع الطريق أمام التفسيرات المضللة بعد وفاته.

حركة ردّ الفعل إذن حركة قصوى لكنها واعية وهو ما يميّزها تماما عن كل حركة مشابهة تكون مؤسسة على انقطاع عصبي ذاتي منفصل بدوره عن الوعي بها وبسياقها ورمزيتها وارتداداتها.

مفاتيح الجنة ومغاليق النار

بالعودة إلى السياق العربي فإن أهم ما يمكن أن يذكر في سياق ردود الفعل على حادثة الحرق هو اختلاف التأويلات بين من يدعو للرجل بالرحمة بل ويحسبه شهيدا وبين من يرى فيه منتحرا "قد مات على الكفر". التعويل على مقولة الكفر والإيمان والجنة والنار هي أشد الثنائيات خطرا على الوعي الجمعي في البلاد العربية لأنها تُلغي كل الأبعاد الإنسانية وتقفز على كل المستويات الأخلاقية الكونية لتحصر الفعل والفاعل في ثنائية قاتلة هي الجنة والنار.

إن التلويح بمفاتيح الجنة ومغاليق النار هي في حدّ ذاتها ردة فعل قصوى من فاعل عربي مسلم عاجز مخدّر في مواجهة فعل أقصى يتجاوزه في الرمزية والإسناد والنصرة متمثلا في حادثة الحرق.

 لا أعتقد أن مثل هذا التعويم السياقي والدلالي بحدّيْه قد خطر على بال "أرون بوشنال" لأن رسالته ليست موجهة إلى العالم العربي والإسلامي ولا هي نابعة منه أو هي معنية به. إن العنصر الوحيد الذي يتصل بهذا الفعل الاحتجاجي في العالم الإسلامي إنما يقتصر على مذبحة غزة وعدالة قضية فلسطين فقط.

من جهة أخرى لم يطرح السياق العربي الإسلامي بما فيه السياق النخبوي على نفسه أسئلة مركزية تفضح محاولته التستّر بالتكفير والتلويح بمفاتيح الجنة ومغاليق النار لتضليل المتلقي المسلم والتغطية على خذلانه هو لأهل غزة.

لماذا ذهب الجندي الأجنبي إلى هذا الفعل الأقصى وهو غير معنيّ بالقضية الفلسطينية باعتبارها قضية عربية إسلامية أساسا؟ هل فجّر الرجل بعدا جديدا في القضية وهو البعد الإنساني الذي يتجاوز الجنسية والأرض والدين؟ هل يستطيع هذا البعد الجديد أن يفضح قصور الأبعاد الثلاثة السابقة وأن يحقق ما لم تحققه منذ أكثر من خمس وسبعين سنة؟ لماذا ذهب الفاعل الأمريكي إلى ردّة الفعل القصوى في حين لم تحقق الفواعل العربية وهي بالملايين حتى ردّة فعل دنيا؟ أين مكمن الخلل؟

الخلل دون شك كامن في الجبهة العربية وتأويلاتها الإسلامية المشوّهة التي أوصلت الأمة وشعوبَها إلى حالة من الهوان والخذلان لم يسبق لها نظير من قبل. من يستطيع أن ينكر اليوم كيف تحولت أدوات النهوض العربي أو الإسلامي إلى أغلال تكبّل حركة الشعوب وتمنعها من التحرر؟ من يستطيع أن ينفي اليوم أن شعوبا غربية "كافرة" بالمنطق السابق قد انتفضت نصرة لفلسطين ورفضا للمذابح هناك؟ ومن يستطيع أن ينكر أن شعوبا "مسلمة" بمئات الملايين قد خذلت أهل غزة خذلانا لم يسبق له مثيل متذرّعة بالخوف من الاستبداد؟

في الحقيقة لم تتمثل الشعوب العربية ثنائية الجنة والنار بقدر ما تستعملها غطاء لإنكار فعلٍ عجزت هي عن إتيانه. "آرون بوشنال" ثائر كوني أقصى أقدم على حركة عنيفة في سياق دموي قاتل مستنسخا عنف الواقع ومتشرّبا وحشية الفعل البشري في غزة، رافضا أن يكون شاهد زور على محرقة قصوى. سلاما إلى روح "آرون بوشنال".