قضايا وآراء

النداء التركي للأكاديميين المضطهدين في الغرب بسبب غزة

"استدعى قورتولموش فورا الخبرة التاريخية التركية في إيواء الأكاديميين الذين يواجهون ظروفا صعبة على مدار التاريخ"- الأناضول
تتجه العقول والكفاءات عادة إلى من يقدرها علميا وماليا وإنسانيا، وقد نجحت التجربة الغربية كحال معظم دول المركز الحضاري عبر التاريخ في جذب العلماء والباحثين. فلا حضارة من دون معرفة ولا معرفة من دون علماء، ولا علماء من دون بيئة خصبة للبحث العلمي والحريات وعلى رأسها حرية البحث العلمي. وحين يختل وضع العلماء والباحثين في دولة ما يتسربون منها إلى مكان آخر، وعادة ما يتم هذا بشكل غير معلن عدا في حالة انتفاضة غزة العالمية التي تموج بها الجامعات الغربية حاليا.

لقد أعلن رئيس البرلمان التركي نعمان قورتولموش أكثر من مرة ترحيب بلاده بالأكاديميين الذين اضطهدوا بسبب دعمهم لغزة وللقضية الفلسطينية. استدعى قورتولموش فورا الخبرة التاريخية التركية في إيواء الأكاديميين الذين يوجهون ظروفا صعبة على مدار التاريخ. وهنا ينبغي التذكير بأن علاقة تركيا مع العلماء والأكاديميين هي علاقة عريقة ذات اتجاهين، فكما كانت تركيا تفتح أبوابها لعلماء فروا من ألمانيا بسبب اضطهاد النازيين، فتحت ألمانيا أبوابها بعد ذلك بفترة لعلماء أتراك آخرين، على رأسهم البروفيسور نجم الدين أربكان الذي كان له دور كبير تطوير الصناعة الألمانية، قبل أن يعود إلى تركيا ويساهم في نهضتها الاقتصادية عبر اتحاد الصناعات وهي البوابة التي دخل منها إلى عالم السياسة بعدئذ. الأمر نفسه تكرر مع الشاعر التركي الشهر محمد عاكف أورسوي، مؤلف النشيد التركي للجمهورية التركية، والذي ذهب إلى مصر وأسس قسم اللغة التركية في جامعة القاهرة.

من هنا تنبع أهمية دعوة رئيس البرلمان التركي، وهي دعوة ذكية لأنها تضرب عدة عصافير بحجر واحد؛ فهي تحاول أن تفتح باب الهجرة لتركيا بشكل معلن بعد أن شوهته كثير من أصوات وأحزاب المعارضة التي حمَّلت المهاجرين كل مشاكل تركيا وتجرد الدعوة حجج المعارضة من منطقيتها، وهي إن سكتت فقد أقرت بالمبدأ الذي يريد حزب العدالة والتنمية إقراره دوما وهو فتح البلاد أمام المهاجرين وخاصة المظلومين، وإن اعترضت، فقد وقفت في وجه خبرات علمية راقية آتيه من أكبر الجامعات الغربية تأتي لتفيد المجتمع التركي، وفي الوقت ذاته تضخ دماء جديدة في الجامعات التركية.

الأمر يتطلب ما هو أبعد من الدعوة الإعلامية إلى بعض الإجراءات العملية في هذا الشأن، لهذا أتمنى أن تكون هناك استعدادات تعليمية ومالية وفي دوائر الهجرة لتطبيق الدعوة التي أطلقها رئيس البرلمان التركي. فليس لديّ أدنى شك من أن كثير من القامات الأكاديمية لن تتردد في الهجرة إلى تركيا طالما توفر لها المستوى الكريم من البحث العلمي والمستوى المعيشي. وقد أثبتت التجارب العربية في هذا الإطار هذا الأمر، فكلما ظهرت بوادر بعض الإصلاح وتحسين الأوضاع في أي بلد عربي قصدته مباشرة طيوره المهاجرة في الجامعات الغربية، فلا شيء يساوي أن يزرع المرء في ترتبه وأرضه ويرى حصاده بين أبناء وطنه.

لقد أنفقت تركيا واستثمرت في عديد من المشاريع الاقتصادية والسياسية والعسكرية خلال العقود الماضية، وأتصور أن الاستثمار ذاته والإنفاق لو تم توجيهه نحو التعليم العالي والبحث العلمي سيكون خطوة رائد تأخذ البلاد إلى مستوى آخر بين الدول؛ ليس فقط من أجل تحسين العملية التعليمية، ولكن لتغيير النظر للبحث العلمي كعملية منفصلة عن المسار الاقتصادي والسياسي والفكري الذي تمر به البلاد ليكون رافدا ورافعا لها ومرتبطا به. بعبارة أخرى، إذا تحولت الخبرة التركية إلى نهضة علمية أكاديمية ستنتج هذه النهضة المعرفة التي تستطيع أن تساعد على الحافظ على هذه الخبرة وتطويرها.

twitter.com/HanyBeshr