مقالات مختارة

نجاح «جنيف 2» بإقرار روسيا أن سورية ليست الشيشان

1300x600
أشعل الاميركيون الضوء الأحمر لتحييد كل الدول الداعمة للمعارضة عن الملف السوري. لا سلاح ولا أموال تمر عبر الحدود، باستثناء ما لا تقدمه الحكومات وما لا تُستخدم فيه القنوات الرسمية. القوات الايرانية ومقاتلو «حزب الله» اللبناني وميليشيا «أبو فضل العباس» العراقية وعناصر من بلدان شتى بينهم حوثيون يمنيون وباكستانيون وحتى روس يستعرضون أمام صور لبشار الاسد...

 يحاربون جميعاً لحسم الحرب السورية لمصلحة النظام، وسط صمت الدول «الداعمة» للمعارضة، بما فيها تلك التي لا تزال تعتبر ايران في «محور الشرّ» أو تصنّف «حزب الله» تنظيماً ارهابياً. هي الدول ذاتها التي طالما تحدّت النظام بأن «الحل الأمني» غير مجدٍ وبأن «الحل العسكري» لن ينجح ثم انتهت الى أن «الحل السياسي» هو الممكن الوحيد، لكنها توفّر له اليوم الغطاء والدعم غير المباشر لينجز الحسم العسكري.

هذا هو نموذج الضغط على المعارضة الذي نبه سيرغي لافروف مراراً الى أن الاميركيين وعدوا به ولم ينفّذوه، ولعله يجد الآن أنهم يفون بأكثر مما تعهدوه تمهيداً لـ «جنيف 2». وعندما سيلتقي ممثلو الدولتين الكبريين تحضيراً لهذا المؤتمر (في 25 ت2/ نوفمبر) قد يتمكّنون هذه المرة من تحديد موعد خلال الشهر المقبل، على وقع «الانتصارات» المتوقعة للقوات الآتية من الخارج كـ «جبهة نصرة» للنظام. وعلى ذلك سيطرح الاسد، وقد يوافقه أيضاً الروس، السؤال البديهي: وعلامَ «جنيف» في هذه الحال؟ فالأسد سيرى أن التطورات الميدانية في صدد حل الأزمة من دون أي جلوس مع المعارضة، لأن الحل العسكري هو الذي سيفرض السياسي، ولن يتبقّى عليه، وفقاً لتعبير أحد رجاله، سوى أن يُحكم إغلاق البلد ويستكمل مع حلفائه الإجهاز على المعارضين تقتيلاً وتذبيحاً وليستغرق الأمر السنوات التي يستغرقها، ساحقاً في طريقه «الارهابيين» الذين يقلقون الاميركيين والروس والاوروبيين معاً.

بالنسبة الى النظام، أصبح «جنيف» عنواناً لتنازل لا يحبذ تقديمه: فللمرّة الأولى سيُسجّل أن طرفاً آخر غير «سورية الاسد» يقاسمه تمثيل سورية. هذا تنازل يكرهه النظام ليس فقط من أجل الاسم، الذي بات يختصر كل الألقاب الاخرى (البعث، العروبة، الممانعة...)، بل لأن المؤتمر والتفاوض والدخول في تفاصيل الملفات ستفتح عليه أبواباً جهد لإيصادها بكل حرص.

لطالما قال الاميركيون للمعارضة إن فرصتهم الوحيدة لممارسة الضغوط ستكون في جنيف، والأسد يخشى هذا الاحتمال ويريد تجنّبه، خصوصاً اذا تقاطع مع خطوات يحدسها من الجانب الروسي لكنه يجهلها حتى الآن. طبعاً لم يعد أحد يصدّق الاميركيين، اذ سبق أن قالوا الشيء نفسه للفلسطينيين في شأن المفاوضات مع الاسرائيليين ولم يحدث أن تعرّض هؤلاء لأي ازعاج أو ضغوط. لا شك في أن قضية شعب سورية وقعت في الفخّ الذي اسمه «اوباما» ولم تتوقعه بل لم تتصوّر أن يكون صنو بوتين في «لا إنسانيته»، مع فارق أن الروسي مكشوف وصريح، أما الاميركي فيدّعي ما يفعل حقاً.

قبل أسبوع أعلن للمرة الأولى، منذ بدء الأزمة، عن اتصال هاتفي بين بوتين والاسد مهّد على ما يبدو لإرسال بثينة شعبان وفيصل المقداد الى موسكو. ويُعتقد أن محادثات الوفد ستتناول المسائل الثلاث التي ذُكر أنها كانت محور اتصال الرئيس الروسي: سير تنفيذ برنامج تفكيك الترسانة الكيماوية، إيصال المساعدات الانسانية، وحماية المسيحيين.

لا مشكلة في العنوان الأول، فالنظام يبذل أقصى التعاون منذ اعتبر الاسد أن تدمير مخزونه الكيماوي أصبح بوليصة التأمين على بقائه في السلطة. لكن العنوانين الآخرين لافتان، ذاك أن قضية المساعدات قد تكون تنازلاً مطلوباً إنْ لم يكن إرضاءً للمعارضة فعلى الأقل كخطوة «تأهيلية» للنظام لدى المجتمع الدولي. فروسيا قد تكون تفهّمت حاجة «الشريك» الاميركي الى الورقة الإغاثية لموازنة ضغوطها على المعارضة، ولعلها تريد في الوقت نفسه اختبار نفوذها على النظام في ملف رفض سابقاً أن يقدّم فيه أي تنازل لا للأمم المتحدة ولا لسواها. أما حماية المسيحيين فقد يكون بوتين فاجأ بها الاسد الذي لا يزال يعتبر نفسه «الضمان» الوحيد للأقليات، غير أن ممارسات قواته وحلفائه في الفترة الأخيرة والخطط التي يتأهبون لتنفيذها ضايقت الأقليات وأحرجتها سواء بدفعها الى انحياز ناشط للنظام أو باختراقها عبر جماعات لبنانية لجرّها الى الحرب.

ليس معروفاً بدقة مدى جدية الرئيس الروسي في طرح حماية المسيحيين، أو اذا كانت لديه مطالب محددة على هذا الصعيد، لكن لهذا الملف صدى تاريخياً يتردد منذ قرون عدّة في أرجاء الشرق وبلغ حالياً أقصى درجات الخطر في ظل صعود تيار الاسلام السياسي بكل تطرّفاته وحماقاته ليحل محل أنظمة استبدادية كانت جميعاً تدّعي لكنها لم تبنِ الدول الكفيلة وحدها بحماية جميع مواطنيها وليس فئة معينة منهم.

لا شك في أن اثارة بوتين هذه المسألة تعكس بلوغ شكوى مسيحية اليه، ولا شك أيضاً في أن سماع الاسد دعوة «الحماية» هذه يجب أن يقلقه. قد يعني عدم ارسال وليد المعلم الى موسكو أن الوفد مكلف الاستعلام والاستطلاع وليس اعلان اتفاقات بين الدولتين. أما اختيار بثينة شعبان (للمرة الثانية منذ ايلول/ سبتمبر 2011) فيشير الى الحاجة للاستفهام عن نقاط «استراتيجية» تختص بالاسد والحلقة الضيّقة للنظام والنيات الروسية قبيل التحضيرات الأخيرة لـ «جنيف 2».

كان هناك من توقّع أن يتقاطع وجود وفدي النظام والائتلاف المعارض، وأن موسكو ربما رتّبت لقاءً بينهما. لكن الائتلاف لم يحسم موقفه من الدعوة الروسية، فهناك مَن يرى ضرورة تلبيتها، ذاك أن السفير روبرت فورد أبلغ محاورين من الائتلاف أن لا جديد لدى واشنطن ونصحهم بالذهاب الى موسكو لعل عندها ما تقدّمه، وفهم المعارضون أن الاميركيين انتهوا الى «تلزيم» الملف لروسيا التي ستبقى لسنوات اللاعب الرئيس في قضية سورية. أما رافضو الدعوة فيحاججون بأن الروس لم تصدر عنهم طوال 32 شهراً كلمة واحدة تعترف بالانتهاكات الفظيعة التي يتعرّض لها الشعب السوري من قتل وتشريد وتدمير، ثم إن اللقاء اليتيم معهم أيام «المجلس الوطني» استغلّه ميخائيل بوغدانوف لإسماعهم أن روسيا سبق أن فعلت في الشيشان ما يفعله النظام في سورية، فما الذي يمكن انتظاره من معاودة اللقاء مع الروس، خصوصاً أنهم ضاعفوا مذّاك دعمهم للنظام ويشاركون في القتل والقتال، ثم إن الوضع الحالي للمعارضة على الأرض (في جنوب دمشق والغوطتين، وفي القلمون وحلب، بالاضافة الى الواقع المستجدّ مع اختراقَي «داعش» و «حزب الاتحاد الديموقراطي»...) قد يحفز الروس على دفع جلافتهم التقليدية الى أقصاها ليقولوا مثلاً إن المعارضة ذاهبة الى هزيمة وما عليها سوى استباقها إما بالتخلّي عن شرط تنحّي الاسد أو على الأقل بالذهاب الى جنيف لقبول تسوية «واقعية».

ما ينبغي أن يدركه الروس أن سورية ليست الشيشان وإنْ كان النظام حوّل مدنها «غروزني»ـات مدمّرة. والمهم أن ثورة السوريين ليس لها قائد يمكن أن يُحاصر بالضغوط ليعلن استسلاماً أو ما يشبهه. أما الأهم فهو أن انكشاف الاستقطاب الطائفي الحاد على مستويي النظام ومناوئيه سيجعل أي انتصار عسكري للأسد غير قابل للصرف في أي حل سياسي ملفّق أو مصطنع.

وأخيراً اذا كان «جنيف» هو عنوان انتصار النفوذ الروسي فالأحرى أن تعمل موسكو على تأمين نجاح حقيقي له، والسبيل الوحيد الى ذلك هو تنازلات جوهرية من النظام طالما أن أي حل سياسي فعلي لا بدّ من أن يقرّ بتغيير جذري في بنية النظام، وإلا فإنه سيكرّس صراعاً دموياً طويلاً.
 
(عن الحياة اللندنية)