سياسة دولية

بروفيسور إسرائيلي: انتهاء العصر الأمريكي بعد " جنيف"

اتفاق جنيف لنووي ايران
 في 12 ايلول 1946 وقع شيء في تاريخ الولايات المتحدة السياسي. ففي ذلك اليوم في خطبة مهمة خطبها هنري والاس وزير التجارة في ادارة الرئيس هاري ترومان في قصر الرياضة الاسطوري في نيويورك (ميديسون سكواير غاردن) فصل نفسه عن التيار المركزي في التفكير الامريكي المعاصر له. وهو التيار الذي تشكل على أثر الهجوم الياباني على بيرل هاربر الذي فاجأ الأمة الامريكية الوادعة في 7 كانون الاول 1941، وافتتح عصرا جديدا من التدخل العسكري والسياسي المتزايد من قبل القوة العظمى في كل أجزاء ومناطق المنظومة الدولية، وذلك لضمان عدم الاخلال بتوازن القوى الدولي ولتنجح الولايات المتحدة في مهمتها لاحباط كل محاولة لضعضعة أسس النظام العالمي الذي نشأ وتم تشكيله بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

 في خطبة والاس اعترض اعتراضا قويا على فرض أن العم سام يفترض أن يحمل على كاهله عبء مواجهة تحديات وأخطار في كل مكان، وأن يمنح في الوقت نفسه الحلفاء مساعدة ودعما وإلهاما. وكان القصد خصوصا الى دول صغيرة وجدت نفسها مُعرضة لتهديدات مباشرة أو غير مباشرة.

 وحل محل مبدأ الصد لكل محاولة لضعضعة الاستقرار ولا سيما في مناطق عُرفت بأنها حيوية من جهة عسكرية أو سياسية لأمن الولايات المتحدة وشريكاتها وراء البحر ورفاهها، حل محل ذلك في خطبة "ميديسون سكواير غاردن" توجه الحد الأدنى المتمايز. وضاءل هذا التوجه مضاءلة شديدة المقدار المشروع من التدخل الامريكي وراء البحار في الفترة التي تلت انقضاء الحرب.

رأى والاس أنه يجب على الادارة أن تحصر العناية في حماية الوطن وتعزيز مكانة الولايات المتحدة في ساحتها الخلفية بهدي من "مبدأ مونرو" في 1823 لا غير وذلك مع الامتناع عن خطوات صد أو عقاب ما بازاء جهود الاتحاد السوفييتي والدول التابعة له لتغيير الوضع الراهن على الارض. ومع ذلك تحفظ والاس على كلامه وقرر أن هذا التوجه سيتغير اذا وجد تهديد ملموس لأمن الولايات المتحدة ومصالح امريكية حيوية.

 برغم فصاحة الخطبة وبرغم أنها أرسلت رسالة عبرت في ظاهر الامر عن شعور بالتعب والاستنفاد لدى الجمهور الامريكي بعد سنوات من الحرب والتضحية، تبين في غضون ايام قليلة أن دعوة والاس لم تحظ بصدى ودعم حقيقي في الساحة السياسية الداخلية، فان فكرة الانطواء في داخل الفضاء الامريكي والعودة في آلة الزمن الى عصر التمايز في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي لم تكن آسرة.

 وليس ذلك فقط. فقد بقي الرئيس ترومان مصمما على منع انهيار نظامي الحكم المواليين للغرب في اليونان وتركيا (بواسطة "مبدأ ترومان" في آذار 1947، الذي منح هاتين الدولتين مساعدة عسكرية)، بل إنه عمل في موازاة ذلك على صوغ "خطة مارشال" الطموحة، لاعادة البناء الاقتصادي لغرب اوروبا.

 وفيما يتعلق بوالاس نفسه – لم يكد يمر ثمانية ايام فقط منذ علا منبر الخطباء في ميديسون سكواير غاردن حتى اضطر وزير التجارة الذائع الصيت الى استقالة منصبه وترك سريعا صفوف الحزب الديمقراطي. وانتهت محاولته تحدي ترومان في انتخابات الرئاسة في 1948 من جهة اليسار مرشحا عن "الحزب التقدمي"، انتهت الى فشل ذريع حينما فاز بـ 2.4 بالمئة فقط من مجموع اصوات الناخبين.
     
 بصورة مضمونة
 بعد هذا المشهد بـ 67 سنة، يبدو أن جهود وزير التجارة والاس لاقناع الرأي العام والادارة بالتخلي عن المسؤولية عن مصير الحلفاء والسير في سبيل الانسحاب والانطواء في داخل امريكا، تحظى الآن بالتجديد وبأذن صاغية في البيت الابيض. فسلوك الرئيس الحالي براك اوباما في الشهرين الاخيرين في السياقين السوري والايراني يشهد على أنه يتجه الى تحقيق حلم والاس التمايزي، في واقع الامر.
         
إن امبراطورية ستالين الشمولية (التي أصبحت في 1949 قوة ذرية كبرى) تحل محلها طهران الثورية التي تحظى باليد الممدودة لتصالح تاريخي، هي يد اوباما. وبقيت ايران دولة على الحافة الذرية حتى بعد "اتفاق جنيف" مع تمتعها بضعف نظام العقوبات الاقتصادية الشاملة التي صيغت ونُفذت بجهد كبير.
         
إن رغبة والاس التي لم تترجم الى اجراءات سياسية ما في عصر الحرب الباردة، أصبحت تتشكل في هذه الايام. وتستطيع أن تغير من الأساس بنية النظام الدولي المعاصر وتوزيع القوة بين أجزائه المركزية. ويصح ذلك خصوصا على الطائفة الاخيرة من القرارات الرئاسية التي تشهد على تعب المادة وعلى عدم استعداد الولايات المتحدة للاستمرار في تشكيل المحيط العالمي باعتبارها القوة العظمى المهيمنة.

إن خيط ارتباط يربط الحرب الأهلية في ليبيا (التي "قادت" الولايات المتحدة فيها المعركة من الخلف) مرورا بالضربة التي لم توجه الى نظام بشار الاسد بعد أن قتل أبناء شعبه بسلاح كيميائي (وتجاوز بذلك جميع الخطوط الحمراء التي حددها اوباما قبل ذلك) وانتهاءا الى الطموح المتقد الى التوصل الى الاتفاق المرحلي مع ايران ولتكن شروطه وعناصره ما كانت. وكل هذه الاجراءات ومثلها طائفة كاملة من القرارات والاعمال التي سبقتها، اشتُقت من مجموعة اعتقادات والاس تلك في 1946 وفي مركزها الخشية من مواجهة التحديات. وإن الشوق اليائس الى ملجأ واستراحة من تعب الحياة والالتزامات الدولية بالهرب المذعور الى داخل البيت، واضح لا ضابط له.

إن اوباما الذي منح التفضيل والتقديم من البدء لقضايا في مجال الاقتصاد والرفاه والاجتماع، والذي أراد قبل كل شيء أن يفصل نفسه عن تراث سلفه جورج بوش القتالي، بلغ الآن الى المرحلة الاخيرة في السباق لتحقيق مجموعة اعتقاداته، لأنه سيصبح في غضون سنة بطة عرجاء غير فعالة (قُبيل بدء الحملة الانتخابية للرئاسة في 2016 حينما سيُنتخب خلف له).

إن حقيقة أن الولايات المتحدة تقترب اليوم بخطوات واسعة الى استقلال طاقة دون أن تكون خاضعة بعد الآن لفضل ملوك وأمراء الخليج، هي باعث آخر لاوباما على تعجيل مسار انفصال الولايات المتحدة من طرف واحد عن منطقة الشرق الاوسط. وهو هاديء ويعلم أن هذا العمل سيتم دون أن يضر ذلك ضررا شديدا بمصالح اقتصادية حيوية.
       
تمايز وتدخل وتمايز
اذا كانت تقصيرات واشنطن في الازمة السورية الاخيرة قد أعادت رئيس روسيا فلادمير بوتين الى مركز مسرح الشرق الاوسط، وأسهمت بذلك في جعله وسيطا أعلى عظيم التأثير، فان النتائج المباشرة للازمة الذرية قد تكون تحسين منزلة ايران وتأثيرها. واذا حدث ذلك وحينما يحدث فسيكون على حساب المحور الموالي للغرب في المنطقة ولا سيما في منطقة الخليج.
         
توجد مفارقة ساخرة غير قليلة كامنة في حقيقة أن اوباما في بدء طريقه في البيت الابيض هو الذي أراد أن يُنشيء حلفا سنيا واسعا مُشكلا يضمن استقرار المنطقة في مواجهة التهديد الايراني، على أثر إتمام الانسحاب الامريكي الذي كان متوقعا من الجبهة العراقية. واليوم بعد بدء تلك المبادرة بخمس سنوات اختفت وصمتت وحل محلها المراودة المصيرية للرئيس حسن روحاني التي أثمرت "اتفاق جنيف" الذي أفضى الى امتعاض الملك السعودي وشركائه وخيبة أملهم في جبهة الخليج وفي القاهرة ايضا.

لا ينبغي بالطبع أن نستنتج من كل ما قيل آنفا أن كل عمليات الولايات المتحدة الاستراتيجية والعسكرية منذ نشأ الواقع ذو القطبين، كانت ناجحة وفعالة. فقد اخطأت ادارة ترومان مثلا خطأ شديدا حينما استقر رأيها على توسيع الحرب في كوريا وأدت باخفاقاتها الى تدخل كارثي للصين الشيوعية في المعركة. وتحولت الحرب المتصاعدة في فيتنام ايضا الى مأساة امريكية أحدثت انقساما اجتماعيا عميقا وانشأت صدمة لم تزل الى الآن زوالا كاملا من الذاكرة الجماعية.

ويُقال الشيء نفسه ايضا فيما يتعلق بحرب العراق الثانية التي نشبت في 2003 وأدت بادارة بوش الابن الى طريق بلا مخرج. ومع ذلك وبرغم الاخفاقات غير القليلة التي صاحبت مسيرة التدخل والمشاركة الامريكية كالظل القاتم، ينبغي ألا نتجاهل النتائج المباركة الكثيرة التي نشأت على أثر تحولها الى قوة عظمى فعالة.

في حين فضلت امريكا المتمايزة في فترة العقدين اللذين فصلا الحربين العالميتين بعضهما عن بعض، أن تجلس على الجدار وتراقب تزايد قوة المانيا النازية، اختلف الامر بعد أن بلغ كابوس "الرايخ الذي عمره ألف سنة" الى نهايته.

 منذ أن صمتت المدافع في 1945 الى فترة ولاية اوباما الثانية، أدى غوليفر الامريكي دورا حيويا حاسما لا في اعادة بناء اوروبا المحطمة الاقتصادية (خطة مارشال في حزيران 1947 كما قلنا آنفا) بل في استقرار النظام الدولي في مواجهة جملة التحديات التي اعترضته.

 فعلى سبيل المثال نجح القطار الجوي الذي نظمه ترومان في صيف 1948 (ورئيس الوزراء البريطاني كليمنت آتلي)، في أن ينقل الى غرب برلين المحاصر مددا ضروريا مدة سنة، وفي الايحاء بصورة التصميم والالتزام للدفاع عن الجيب الغربي في داخل المنطقة المحتلة السوفييتية.

وبعد ذلك بـ 13 سنة عمل الرئيس جون كنيدي هو ايضا بصرامة وبلا هوادة ليضمن عدم تعريض مكانة الغرب في برلين للخطر وذلك بعد انشاء السور في المنطقة المحتلة الشرقية. وقد أرسل كنيدي لتلك الغاية قوة مقاتلة من المانيا الغربية الى برلين الغربية.

والى ذلك، استعملت ادارات الولايات المتحدة الى جانب الوقوف مع شريكات في ازمة وفي اوقات ازمة، طائفة واسعة من الوسائل الاقتصادية والتقنية المتنوعة كانت ترمي الى التأثير في النسيج الاجتماعي وتشجيع مسارات النمو والتحديث والانتقال الى اقتصاد السوق، في أجزاء واسعة من العالم الثالث. وهكذا حملوا معهم بشرى التكنولوجيا الامريكية الى مناطق آسيا والشرق الاوسط وافريقيا وامريكا اللاتينية. ففي مطلع ستينيات القرن الماضي مثلا زاد الرئيس كنيدي جدا ما أُرسل من الفوائض الزراعية في اطار خطة "غذاء لأجل السلام". وانشأ سلاح السلام الذي أُرسل في اطاره متطوعون الى مراكز فقر وعُسر في أنحاء العالم الثالث لمنح خدمات تربية ومساعدة تقنية.

 حتى لو كان بعض هذه المبادرات قد رمى الى الدفع قدما بأهداف سياسية واستراتيجية واضحة، فانه ينبغي عدم التقليل من أهميتها وقيمتها الاقتصادية والاجتماعية. ويبدو اليوم في مقابل ذلك بسبب روح التمايز التي تهب من البيت الابيض أنه يمكن القضاء على العصر الذي أدت فيه ادارات الولايات المتحدة دورا مركزيا جدا في اعادة البناء الاقتصادي للمحيط الدولي.

يُخلون المكان
قلنا من قبل إن حلم وزير التجارة والاس المنسي أخذ يتحقق أمام أعيننا وإن لم يكن ذلك في سياقه الأصلي. فقد حلت الآن محل الولايات المتحدة بصفتها القوة العظمى ورأس الهرم العالمي، ولايات متحدة مختلفة. فهي كيان جديد أصبح منذ 2009 أكثر إنكارا لواجب قيادته ورسمه بوضوح للخطوط الحمراء التي يفترض أن تفصل بين ما يحل وما لا يحل.
         
وهكذا نشهد ايضا الحرص على اسلوب عمل متعدد الأطراف في سياسة اوباما الخارجية والامنية مع امتناع عن اجراءات من طرف واحد كانت تميز سلوك الولايات المتحدة في اثناء ولايات أكثر رؤسائها. وحل محلها اسلوب عُبر عنه فيما يتعلق بالحرب الأهلية في ليبيا وبالازمة الذرية الايرانية.
         
إن هذا الحرص الزائد على العمل في داخل اطار متعدد الأطراف (فيه ما يضائل مجال الحيلة الامريكي)، والمصحوب بخوف عميق من "تورط" آخر كما كان في فيتنام أو العراق أو افغانستان، جعل العملاق الامريكي نمرا من ورق، ولم يكن ذلك لضرورة وإنما لتعب ولضعف الرأي.
         
وهكذا فُتح الباب لقوى ولاعبات اخرى كروسيا التي فقدت قبل عقدين فقط أكثر ممتلكاتها وهي تستطيع الآن أن تعود لتدخل ميدان القوى العظمى مطالبة بالتاج. وصيغ من جديد في الوقت نفسه التفكير المبدئي الرسمي الذي يحصر العناية الآن بصورة حصرية تقريبا في التحدي الصيني – باعتباره مصدر تهديد في المستقبل لأمن الولايات المتحدة (ويوجب إظهار قوة ميدانية). وفي مقابل ذلك تضائل الولايات المتحدة من قيمة مراكز خطر محتملة اخرى.
         
والنتيجة المجتمعة من هذه الأمزجة العامة وخطوط السياسة المشتقة منها تشير اذا الى نهاية العصر الامريكي والى تحقق حلم هنري والاس في الواقع الحالي. والحديث بالطبع عن مسار مقلق يثير الخوف. إن الفراغ الذي نشأ قد يفضي الى زيادة قوة قوى لا تهديها قيم الديمقراطية والاستقرار. وقد تضعف ايضا قوانين اللعبة الدولية التي صيغت وشُكلت بوحي من الهيمنة الامريكية حينما كانت في ذروة قوتها. ويحتمل لذلك أن تتسع هوامش الغموض وعدم اليقين التي هي غير واضحة أصلا وتغلف المنظومة كلها.
         
قبل نحو من مئة سنة جرى على الولايات المتحدة تحول مصيري من قطب التدخل العسكري في الحرب العالمية الاولى (وهي التي رفعت راية انشاء نظام جديد وديمقراطي في اوروبا) الى قطب الانطواء والتمايز الذي عبر عن خيبة أمل الأمة واحباطها بسبب تحطم الحلم على ارض الواقع العصي.
         
ويُسأل الآن هل سينشأ عن الحركة الحالية للرقاص من قطب التدخل – حيث كان يقف منذ تحولت الولايات المتحدة الى القوة العظمى – الى قطب التمايز، نتيجة مدمرة هذه المرة؟ وهل ستسترجع ذكرى الماضي وبخاصة حقيقة أنها أنكرت ضرورة الوقوف الى جانب شريكاتها الاوروبيات في مواجهة العاصفة التي هددت باسقاط النظام القائم؟ وهل ستستجيب للتحدي حينما تتعرض لتهديد ملموس فقط؟.

عن صحيفة "إسرائيل اليوم" الصادرة في 29/11/2013