كتاب عربي 21

ليبيا بين الانقلاب والحوار الوطني

1300x600
بلا شك كانت المحاولة الانقلابية للقائد العسكري والمتحدث غريب الاطوار اللواء المتقاعد خليفة حفتر فاشلة من مؤشراتها الاولية.

حيث ان بيان اعلان الانقلاب اتى باجراءات مؤجلة كأن المؤسسات الليبية الحاملة للسلاح ستعطي مهلة للزعيم العسكري الضعيف والجالس في منزله لكي يقوم بما يريد القيام به هانئا مطمئنا.

ما سمي الان بـ"الانقلاب الضاحك" في ليبيا على اثاره الضعيفة يمثل حدثا مهما بكل المقاييس. فحينما ينتظر كل المراقبون المحليون والاقليميون بقلق بالغ تطورات الوضع في ليبيا يذكرنا حفتر بامر ربما نسيناه جميعا وهو احتمال الانقلاب العسكر التقليدي، لكن يقوم بشيء آخر أيضا اي تذكيرنا بان عهد الانقلابات الكلاسيكية الشعبوية التي اسست للتاريخ الاخضر لليبيا انتهت بلا رجعة. في مقابل تواري خيارات الانقلاب العسكري في دولة الجيش فيها في ذاته يحتاج اعادة بناء وربما هو اضعف مؤسساتها لا يعني انتهاء خيارات الانقلاب، باشكاله الاخرى، على المسار الانتقالي الديمقراطي.

كانت ثورة 17 فبراير الليبية متميزة وهي مجرد مثال اخر على ان ثورات الربيع العربي لم تكن متشابهة في التفاصيل. بالاضافة الى البداية العنيفة المبكرة سواء من قبل الثوار في بن غازي او الرد الاعنف والدموي بمجازر ضد المحتجين بشكل متماهي مع نظام القذافي والتدخل السريع للقوى الاجنبية ممثلة في حلف الناتو كان احد الميزات الاخرى الدور الكبير للمنشقين عن النظام. منذ البداية كانت الثورة الليبية هي تحالف الثوار "العذريين" (اي الذين لم يكن لهم ماضي الا متى قرروا الثورة منذ الجماعات الاسلامية قبل الثورة او ممن التحقوا بعد الثورة) والمنشقين عن النظام والذين كان بعضهم من اقرب المقربين للعقيد القذافي. كان هذا التحالف هشا وتعرض لعدد من الهزات القوية اشهرها اغتيال اللواء عبد الفتاح يونس ومن الواضح ان ايا من الطرفين لم ينس للآخر انه إما كان معاديا للنظام بخلفية اسلامية معتدلة كانت او متشددة وإما مواليا للنظام بل احد رؤوسه.

كان تحالف الضرورة ولم تكن الاطاحة بالقذافي إلا نقطة الانطلاق للصراع الداخلي بين المكونين الرئيسين. وهكذا منذ تلك اللحظة كانت السلطة الفعلية موزعة بين رأسي هذين المكونين اي رئيس المجلس الوطني الانتقالي مصطفى عبد الجليل من جهة وزعيم المجلس العسكري في طرابلس عبد الحكيم بلحاج. وذلك كان يعني الهشاشة الكبيرة لنقطة الارتكاز لاستقرار الدولة. تداعيات الصراع بعد اسقاط النظام فجرت تعقيدات جديدة بالتحديد منها الجهوية والعشائرية والعرقية خاصة منها التي كانت مرتبطة بالنظام المتهاوي، وفوق ذلك عقدت الولاءات الى الاطراف الدولية والاقليمية من المعطيات المحلية خاصة الولاءات للدوحة وابو ظبي وانقرة وباريس وواشنطن ولندن. باختصار لم تكن الاطاحة بالنظام نقطة التئام النظام الجديد بل نقطة انفراط ومسار صعب من لم الشمل لدولة لم تكن دولة الا بالكاد.   

كان المسار السياسي في ليبيا لاشهر تلت الانتخابات كأنه في مجرة سماوية مختلفة عما يعتمل الواقع الليبي الميليشياوي وواقع السوق  السوداء. اتجهت السلطات الانتقالية الضعيفة إلى احتواء قوة الميليشيات المنفلتة لكن بشكل مفارق عبر تعميق شرعيتها، اذ ركزت قوتين شبه رسميتين: "درع ليبيا"، تحت إشراف وزارة الدفاع، و"اللجنة الأمنية العليا"، تحت إشراف وزارة الداخلية (والعديد من عناصرها من قبيلة مصراتة) في سياق بناء الدولة للجيش والشرطة. ما يضاعف المشكل ان الانتساب الي الميليشيات اصبح مستسهلا خاصة انه مدخل لعدد من الامتيازات، وتشير الارقام الى ان هناك ما يتجاوز المائتي الف شخص ممن يتقاضون اجورا في بلد مجمل سكانه خمسة ملايين نسمة اي بمعدل اربعة في المئة من السكان ينتسبون الى الميليشيات المسلحة.

لم تكن نتائج الانتخابات تعبيرا عن موازين القوى هذه بل كانت تعبيرا عن المجتمع السياسي الناشئ ولكنه كان تعبيرا بالتأكيد عن اهل السياسية بين القديم والجديد، فكانت القوتين الاساسيتين قوى التحالف الوطني بقيادة محمود جبريل (حوالي 40 نائبا) معبرة عن النظام القديم وحزب العدالة والبناء الاخواني وتحالف واسع من المستقلين الاسلاميين باسم كتلة "الوفاء للشهداء" (حوالي 90 نائب بين الكتلتين) معبرة عن القوى الاسلامية الجديدة بالاضافة الى طيف واسع من المستقلين. انتهاء الشرعية المفترضة للمؤتمر الوطني العام وتمديدها عمق الصراع بين المجرات المختلفة: من جهة داخل المجرة السياسية الشرعية، وبينها وبين الميليشيات والقوى الحاملة للسلاح المتحفزة لمطالب شعبية لفرض الاستقرار.

نجاح النموذج التونسي من حيث قدرته على تجاوز خيارات العنف لصالح خيارات السياسة كانت له اصداء قوية في وضع الازمة هذا. بيد ان عراقيل موضوعية تبرز بوضوح في هذا السياق. منها عدم وجود قوى مدنية فاعلة ذات ثقل رمزي تاريخي في ليبيا على غرار إتحاد الشغل في تونس يمكن أن تلعب دور الحاضن للقوى السياسية. كما ان غالبية نواب المؤتمر الوطني العام هم من المستقلين ما قد يطرح إشكالية التمثيلية. ايضا تحالف القوى الوطنية، الفصيل السياسي الأبرز في المؤتمر، هو تحالف سياسي-انتخابي بين أحزاب وقوى مدنية يعيش اختلافات وتجاذبات بين أجنحته. في كل الحالات يبدو قانون العزل السياسي شديد الراديكالية والذي ضم معارضين بارزين لنظام القذافي على رأسهم الدكتور المقريف. امام غياب اطراف راعية فإن قوة اي حل تكمن في مضمونه وليس في شكل رعايته. ومن الوتضح ان نقطة التأزم الاساسية هي قانون العزل. فمها فقط يمكن البدئ في التفكير في ايجاد ارضية مشتركة لحوار وطني يجنب البلاد السقوط الى حافة البارود.