حقوق وحريات

إعاقات دائمة تلحق ضحايا التعذيب في السجون السورية

محمد إسماعيل قطعت رجلاه نتيجة التعذيب في السجون السورية (الأناضول)

لا تقتصر عذابات ومآسي آلاف ضحايا التعذيب في السجون السورية على فترة اعتقالهم، بل تتخطاها لتطبع مستقبلهم ومصيرهم، فعدد كبير منهم أصيب بإعاقات دائمة تمنعه من مزاولة أعماله، فيما الكثيرون منهم خسروا عائلاتهم التي تفككت وباتوا يعانون حالات نفسية صعبة قد لا تشفيها السنوات.

5 أشهر قضاها محمد إسماعيل من مدينة حمص (وسط سورية) في السجن كانت كفيلة بأن تقلب حياته رأسا على عقب، فهو أُدخل الى فرع الأمن العسكري في دمشق في شباط/ فبراير 2012 وخرج منه بعد خمسة أشهر مبتور الرجلين جراء التعذيب الذي تعرضه له.

وروى إسماعيل بحسرة كبيرة، وهو الآن لا يستطيع التنقل إلا على كرسي متحرك، تفاصيل قصته المؤثرة لـ"الأناضول" من بلدة دير عمار شمال لبنان التي لجأ اليها مع زوجته وأولاده الأربعة وشقيقته التي فقدت زوجها في الحرب المستمرة في سورية منذ ثلاثة أعوام.

واستعاد بالذاكرة يوم قصف مسقط رأسه في حي بابا عمرو في حمص في العام 2011، وكيف نزح مع الآلاف إلى حي جوبر في دمشق حيث مكث فيه 15 يوماً قبل اعتقاله.

وقال إسماعيل: "في صبيحة أحد الايام دخلوا إلينا وداهموا مكان سكننا، وجرونا الى فرع الأمن العسكري، هناك تعرضنا لوسائل تعذيب مختلفة كالصعق الكهربائي والضرب بالكرباج ما أدى إلى تضرر وتلف أنسجة رجلي في المعتقل وإصابتي بمرض الغرغرينا"، ولأنّه لم يتلق العلاج اللازم بترت رجلاه.

ويجزم إسماعيل بأن سبب توقيفه كان اعتباطيا، "فقد كنت بالمنزل ولم أكن املك سلاحا أو غيره".

وقد تضاعفت مأساة الرجل الأربعيني بعدما تركته زوجته بسبب إعاقته الجسدية. وهو اليوم يعيش مع أولاده الـ4 وشقيقته بانتظار من يمد لهم يد العون ويقدم لهم المساعدة.

يجد إسماعيل نفسه عاجزا فيفضل الانزواء في إحدى غرف المنزل الثلاث، وعندما تضيق به الدنيا يخرج إلى الشرفة الصغيرة يتأمل مسار الحياة الطبيعية خارج الجدران الأربعة.

لا ينكر أنّه يفكر بالانتقام ممن تسبب بإعاقته، لكنّه سرعان ما يدعو لإحقاق الحق والعودة للدين، قائلا: "ليرأفوا بحال هذا الشعب الذي شرد وأبعد ولينقذونا من تقبيل الأيادي من أجل المساعدة".

وكانت "الأناضول" نشرت في 20 كانون الثاني/ يناير الماضي، وثائق بعنوان "جرائم الحرب في سورية"، تضمنت قسماً من 55 ألف صورة، تظهر قتلى التعذيب الذين قضوا على يد قوات النظام السوري خلال عامين، والذين يقدر عددهم بـ11 ألف ضحية.

ليس بعيدا من منطقة دير عمار حيث يعيش إسماعيل، يقطن عبد السلام محمد جمعة، ابن حي بابا عمرو ايضا، الذي وصل منذ 5 أشهر تقريبا مع زوجته وأولاده الثلاثة الى بلدة حلبا شمال لبنان.

يذكر جمعة جيدا كل تفاصيل اعتقاله، ففي نيسان/ أبريل 2013 تم إلقاء القبض عليه لأنّه كان يحمل هوية تؤكد أنّه من منطقة بابا عمرو التي استهدفها النظام السوري في العام 2011 بقصف عنيف بعد حصار طويل، ما أدّى إلى دمارها بالكامل ومقتل وتشريد الآلاف من سكانها.

ويشير جمعة في حديث مع "الأناضول" الى أنّه اقتيد إلى مركز أمن الدولة في دمشق حيث بقي هناك حوالي عشرين يوما ليحكم عليه بعدها بالسجن 6 أشهر. والمرحلة الأصعب كانت فترة التحقيق معه والتي استمرت 5 أيام.

ولفت إلى أن التحقيق كان يبدأ من الساعة التاسعة ويستمر حوالي 4 ساعات "يختبر" خلالها الموقوف الضرب المستمر وأنواعا من التعذيب، "فهناك أناس يتم رشهم بالمياه الساخنة وآخرون يصعقون بالكهرباء كما يتم ضرب بعضهم بغاية الوحشية".

وقد نال جمعة نصيبه من التعذيب، بحيث تم عصب عينيه ومن ثم "بدأت أتعرض للضرب بالأيدي وخراطيم المياه البلاستيكية مع الدفع والدعس"، واستذكر المرحلة الأخيرة من التحقيق، حيث "كان هناك رجلان واحد عند يميني وآخر عند يساري وكنت في حالة يرثى لها وغير قادر حتى على الوقوف، في تلك اللحظة قام أحدهم بضربي على بطني وصدري وبسبب ذلك أصبت بالفتاق، وهذه الضربة الأخيرة كانت خاتمة الخواتم وبسببها أغمي علي".

لا تزال آثار الضرب المبرح ظاهرة على كامل جسد جمعة الذي تطبعه بقع خضراء، لكن ألمه الأكبر هو نتيجة "الفتاق" الذي جعله وإلى جانب ألم ظهره عاجزا عن مزاولة مهنته كـ"بلّاط".

ويعيش المعتقل السوري السابق كالآلاف من اللاجئين السوريين غيره، والذين تخطى عدد المسجلين منهم الـ981 ألفا في لبنان، على المساعدات التي تقدمها المنظمات الدولية والجمعيات المحلية والأهلية. وقال جمعة: "اليوم نقضي حاجاتنا ونصمد ونعيش من بعض المساعدات القليلة التي تقدم لنا".

ويبدو الرجل الخمسيني مستسلما لقدره "بعدما أدار كل العالم ظهره للشعب السوري"، وكل ما يطمح اليه هو تأمين القوت اليومي لعائلته، فلم يعد له القدرة حتى للتفكير بالانتقام. ويتساءل جمعة: "ممن أنتقم أصلا؟ أنا لا أعرف حتى من الذي عذبني.. الله هو الذي سينتقم لي".



آثار التعذيب على ساقي عبد السلام جمعة (الأناضول)