كتاب عربي 21

رئاسة تركيا تفتح الطريق لمتغيرات سياسية ودستورية كبيرة

1300x600
تجتاح حمى انتخابية المشرق العربي ـ الإسلامي هذا الصيف. فبعد انتخابات العراق النيابية، تشهد موريتانيا ومصر وسوريا انتخابات رئاسية، كلها، كما العراق من قبلها، تبدو وكأنها صورية بحتة، معروفة النتائج مسبقاً، ولا يتوقع لها أن تصنع أية تحولات ملموسة في واقع الدولة والبلاد.

تركيا هي الأخرى في طريقها إلى انتخابات رئاسية، ستجرى على الأرجح في مطلع آب/أغسطس المقبل، على أن يتسلم رئيس الجمهورية الجديد موقعه في نهاية الشهر، عندما تنتهي ولاية الرئيس الحالي، عبد الله غول. ولأن تركيا أسست منذ البداية باعتبارها جمهورية برلمانية، وأن صلاحيات رؤساء الجمهورية أصبحت، بعد 1960، أقل بكثير من صلاحيات رئيس الحكومة، وأن رئيس الجمهورية في النظام التركي ينتخب من قبل البرلمان وليس الاقتراع المباشر، لم يكن انتخاب رئيس جديد يثير عادة اهتماماً كبيراً. هذه المرة تبدو مختلفة بصورة واضحة؛ وبالرغم من أن عاصفة الانتخابات المحلية، التي جرت في نهاية آذار/مارس الماضي، لم تخمد بعد، تسيطر انتخابات الرئاسة على اهتمام الدوائر السياسية والإعلامية.

للمرة الأولى في تاريخ تركيا الحديثة، سينتخب رئيس الجمهورية من بين المرشحين باقتراع مباشر من الشعب، على أن يحصل الفائز على أكثر من خمسين بالمائة من الأصوات في الجولة الأولى، أو تجرى جولة انتخابية ثانية بين المرشحين الاثنين صاحبي أعلى أصوات في الجولة الأولى. وبالرغم من أن لجنة برلمانية توافقية فشلت في 2013 في الخروج بمسودة دستور جديد، وأن صلاحيات رئيس الجمهورية لم تزل كما هي عليه في دستور 1982، فإن رئيساً ينتخب مباشرة من الشعب، لا بد أن يتمتع بسلطات معنوية كبيرة، تؤهله لاستخدام صلاحياته المحدودة بصورة أكثر تأثيراً على مسار البلاد وتوجهاتها الرئيسية. ولأن رئيس الحكومة الحالي ورئيس حزب العدالة والتنمية، طيب رجب إردوغان، سيكون على الأرجح المرشح الأبرز في هذه الانتخابات، فإن فوزه بمقعد الرئاسة يعني أن تركيا الجمهورية سترى رئيساً من نوع مختلف تماماً. كل المجتمع السياسي التركي يعرف، أن إردوغان الرئيس لن يكتفي بتوقيع مراسيم القوانين، أو بمهمات اختيار اعضاء بعض المجالس العليا، أو التجوال حول العالم لتعزيز موقع البلاد السياسي والاقتصادي.

بيد أن الجدل حول الانتخابات الرئاسية لا يقتصر حول كيفية تعهد الرئيس المقبل لمهماته؛ وكلما اقتربت البلاد من موعد الانتخابات، كلما تزايدت الأسئلة التي لا ينفك جدل الرئاسة عن توليدها.

كان السؤال الأبرز قبل الانتخابات المحلية ما إن كان إردوغان سيخوض فعلاً معركة الرئاسيات؛ وهذا ما نقل المنافسة على مقاعد مجالس محلية ورئاسية بلديات إلى حرب طاحنة حول مستقبل البلاد، عندما حاولت أحزاب المعارضة وجماعة فتح الله غولن إيقاع الهزيمة بالعدالة والتنمية وإحباط حظوظ إردوغان في الترشح للرئاسة. حسمت المحليات بالطبع لصالح العدالة والتنمية، ولكن محاولة إضعاف رئيس الحكومة التركية وتشويه صورته لم تتوقف. بعض القوى المناهضة للعدالة والتنمية لم تزل تأمل في إيقاع الهزيمة بإردوغان حتى قبل أن يذهب الأتراك لصناديق الاقتراع. وهذا ما يثير سؤال الجولة الانتخابية الواحدة أو الجولتين. ما يخطط له قادة العدالة والتنمية ومساعدو رئيس الحكومة هو حسم المعركة من الجولة الأولى، وذلك ببناء تحالف انتخابي واسع يضم الكتلة الصلبة من مؤيدي العدالة والتنمية، الصوت الكردي، أصوات الأحزاب الإسلامية الصغيرة، الجناح التقليدي المحافظ، الأقل شوفينية من مؤيدي حزب الحركة القومية، والأصوات الأكثر ليبرالية من الطبقة الوسطى، التي تخشى من تأثير عدم الاستقرار السياسي على الوضع الاقتصادي ومستقبل الديمقراطية والحريات. أجنحة في المعارضة، من جهة أخرى، تخطط لدفع الانتخابات إلى جولة ثانية، حيث يمكن أن تتوحد قوى المعارضة المختلفة، بمن في ذلك مؤيدو الأحزاب الإسلامية الصغيرة، حول المرشح المنافس لإردوغان. المشكلة أن حزبي المعارضة الرئيسين، الشعب الجمهوري والحركة القومية، لم يعلنا حتى الآن عن مرشحيهما، أو عن مرشح مشترك لهما معاً، حتى يتضح وزن المنافسين المحتملين لزعيم حزب العدالة والتنمية، وما إن كان بإمكان أحدهما خوض معركة جدية في مواجهته.

ويتعلق السؤال الثاني بمصير مؤسسة الرئاسة ونظام الحكم في الدولة التركية. خلال عمل اللجنة البرلمانية التوافقية في العام الماضي من أجل وضع دستور جديد، تقدم حزب العدالة والتنمية بمقترح تفصيلي لتغيير نظام الحكم من البرلماني إلى الرئاسي، على أساس أن بلداً في حالة نهوض وفي محيط غير مستقر، يحتاج مركزاً واضحاً للقرار. ولكن لا المقترح حصد موافقة أعضاء اللجنة الآخرين، ولا اللجنة نجحت في وضع مسودة الدستور المرتقب. السؤال الآن حول ما إن كان العدالة والتنمية سيعود من جديد، بعد انتخابات 2015 البرلمانية، وفي حال أصبح إردوغان رئيساً للجمهورية، لمحاولة تغيير نظام الحكم، سواء بتمرير تعديل دستوري في البرلمان ومن ثم استفتاء الشعب عليه، أو محاولة بناء تحالف برلماني كاف لتمرير التعديل بالأغلبية التي يشترطها الدستور. وفي حال واجه العدالة والتنمية عقبات منعت تعديل الدستور، وظل نظام الحكم في المدى المنظور على ما هو عليه، فأي علاقة ستنشأ بين رئيس الجمهورية، النشط وصاحب الكاريزما الهائلة، ومن سيخلفه في رئاسة الحكومة؟ هل سيحافظ إردوغان على تقاليد العلاقة بين مؤسستي الحكم، أم أنه سيحاول توظيف الشرعية التي يوفرها الانتخاب الشعبي المباشر؟ المشكلة هنا أن المشرع التركي، عندما جعل الرئاسة محل الاقتراع المباشر، لم ير أن النظام الانتخابي الجديد يمنح رئيس الجمهورية شرعية ووزناً معنوياً كبيراً، بدون أن يوفر له صلاحيات موازية لهذه الشرعية والثقل المعنوي.

أما السؤال الهام الثالث فيخص حزب العدالة والتنمية نفسه. ولد الحزب أصلاً من تحالف واسع نسبياً، ضم شخصيات من خلفيات إسلامية ومحافظة، علمانية ـ ليبرالية، وليبرالية أقل علمانية. وقد ارتبط الحزب منذ ولادته برئيسه طيب رجب إردوغان، الذي ساعدت نجاحاته المتلاحقة، في مجالات الاقتصاد وإصلاح جهاز الدولة والخدمات وتأمين المسار الديمقراطي للبلاد، في تعزيز كاريزمته ونفوذه، بحيث بات يصعب تصور الحزب بدون زعيمه المؤسس. مثل هكذا تجربة حزبية ليست غريبة على تركيا الحديثة، وما يزال دارسو السياسة التركية يذكرون كيف توارت أحزاب يمينية ويسارية عديدة باختفاء زعمائها المؤسسين. مشكلة أغلب الأحزاب التركية التي ولدت في عهد التعددية القلق، منذ 1945، أنها لم تنجح في التحول إلى مؤسسات سياسية، مستقلة عن الزعامات الكارزمية التي أسستها وقادتها في مراحل نجاحها الأولى. اليوم، يواجه العدالة والتنمية هذا التحدي الكبير.

استند أحد السيناريوهات المبكرة لخلافة إردوغان في رئاسة الحزب والحكومة إلى فكرة تبادل المواقع بين إردوغان ورئيس الجمهورية عبد الله غل، على أساس أن غل قيادي كبير سابق في العدالة والتنمية وصاحب تجربة في إدارة الحكومة وشؤون الدولة، وأن عودته ستضمن تماسك الحزب والحفاظ على سجله الناجح في الحكم. خلال الأسابيع الماضية، بدا أن غل لا يحبذ الفكرة، بالرغم من أنه لم يستبعد احتمال عودته السياسية كلية، وأن قواعد الحزب تريد بداية جديدة، على أية حال. مهما كان الأمر، فلن يكون باستطاعة غل العودة للساحة السياسية حتى الانتخابات البرلمانية المقبلة في العام القادم، ولابد بالتالي أن يكون هناك رئيس حكومة جديد عندما يتخلى إردوغان عن موقعه. وهذه هي فرصة الحزب الكبيرة للخروج من حقبة التأسيس، وفك الارتباط مع الشخصية الكارزمية، والتحول بالتالي إلى مؤسسة حزبية سياسية، قادرة على البقاء لعدة عقود قادمة. بمعنى أن يصبح الحزب مكوناً ثابتاً في الحياة السياسية التركية.