مقالات مختارة

أزمة القضاء المصري

1300x600
كتب فهمي هويدي: سمعة القضاء المصري صارت بحاجة إلى إنقاذ، ليس فقط لأن عواصم العالم والمنظمات الحقوقية الدولية صارت تشكك في استقلاله ونزاهته، ولكن أيضا لأن الثقة في القضاء تراجعت إلى حد كبير في داخل مصر ذاتها. لست أتحدث فقط عن أصداء الإسراف في إصدار أحكام الإعدام ولا عن القسوة المفرطة في أحكام السجن الصادرة بحق الطلاب والمتظاهرين، ولا عن التسامح المحير والمدهش مع رجال الأمن الذين أدينوا في ارتكاب جرائم بحق المواطنين. وإنما أتحدث أيضا عن عمليات الكيد والتنكيل بالقضاة الذين رفعوا منذ عقود راية الدفاع عن استقلال القضاء. وتلك ملابسات أزعم أنها تشكل أكبر إساءة للقضاء وإهانة له. إذ بمقتضاها فإن الإساءة صارت تتم من داخل المرفق ذاته وليس من خارجه.

لا غرابة والأمر كذلك أن يشير الاستطلاع الذي أجراه في شهر مايو الماضي مركز بيو للدراسات (الأمريكي) إلى تراجع ثقة المصريين في القضاء، إذ بين الاستطلاع أن 58? من المصريين صاروا يعتبرون دوره سلبيا في حين أن 41? فقط ارتأوا العكس.

ما عاد مقنعا الرد على أصوات الاستنكار التي صدرت في أنحاء العالم بأنها تمثل تدخلا في الشأن الداخلي لمصر، وما عاد مقنعا القول بأن بيوت الآخرين من زجاج ولديهم من السوءات والمثالب أكثر مما عندنا. إذ رغم أن التدخل في الشأن الداخلي مرفوض قطعا من حيث المبدأ. إلا أن قضايا حقوق الإنسان لم تعد شأنا داخليا في زماننا. فضلا عن أنها صارت أحد أبواب التدخل الدولي المقبولة سياسيا وقانونيا، بحيث ما عاد من حق أي نظام أو سلطة أن يدير ظهره لانتقادات حقوق الإنسان التي تنسب إليه محتجا بمقولة «شعبي وأنا حر فيه». صحيح أن الهوى السياسي كثيرا ما يشوه براءة الفكرة، إلا أن الأصل يظل قائما. أما كون الآخرين لديهم مساوئهم أيضا فهو صحيح، إلا أن انتقاد مساوئ الآخرين لا ينبغي أن يكون مسوغا للقبول بوقوع الانتهاكات عندنا. فنقدهم واجب حقا ونقد ما يجري في ديارنا أوجب.

ثمة حجة تساق أيضا مفادها أن الأحكام محل الانتقاد صدرت ولا معقب لنا على حكم القضاء. وهي حجة توضع في غير موضعها وتساق لإسكات الأصوات وتخويفها.

ذلك أنني أفهم أن الحظر ينصب على التعقيبات والتعليقات التي تصدر أثناء نظر القضية، ضمانا لاستقلال القاضي وتجنبا للتأثير عليه من خلال وسائل الإعلام أو ضغوط الرأي العام. أما مناقشة الحكم بعد صدوره أو التعقيب عليه بعد أن يصدر القاضي قراره بشأنه. فلا حظر عليه وإنما هو مطلوب من باب ممارسة حرية التعبير وتنوير الرأي العام. ومن المفارقات أننا في مصر نرفع الشعار ثم نطبق عكسه تماما. بمعنى أن المحاكمات ما عادت تجري في ساحات القضاء فحسب، وإنما صارت تتم في وسائل الإعلام بصورة موازية في الوقت نفسه. بل إن بعض وسائل الإعلام أصبحت تتطوع وترشح أحكاما بالمؤبد أو الإعدام أو البراءة على بعض المتهمين. بل إن بين يدي نماذج لتسريبات أوصلها بعض القضاة للصحف تتعلق بتحقيقات جارية أو تحريات تمت، أريد بها تعبئة الرأي العام وتحريضه إلى جانب تشويه صورة بعض الشخصيات العامة. وفي حين يتم ذلك أثناء التحقيق والمحاكمة، فإن الجميع يطالب بالصمت بعد صدور الأحكام بدعوى الالتزام بذريعة عدم التعليق على الأحكام.

في أجواء البلبلة الراهنة ما عاد ممكنا الفصل بين سيل الإعدامات التي استهدفت عناصر وقيادات الإخوان، لأول مرة في تاريخ القضاء المصري، وبين الصراع الحاصل بين سلطة يوليو والجماعة. كما صار من الصعب الفصل بين الإفراط في إصدار أحكام السجن والغرامات المهولة بحق المتظاهرين السلميين، وبين إصرار السلطة على وقف المظاهرات المستمرة في مصر منذ عشرة أشهر. كما أصبح من المتعذر الفصل بين تدهور العلاقات بين القاهرة والدوحة وبين أحكام السجن القاسية التي صدرت بحق صحفيي الجزيرة الانجليزية، الذين كانوا يمارسون عملهم العادي شأن أي مهني في مصر. والسجل حافل بالنماذج الأخرى التي أثارت شكوكا حول تسييس القضاء وتراجع استقلاليته في مصر.

أما الذي يفعله القضاة بالقضاة فذلك فصل محزن وباعث على الأسى. لأننا نجد أن قامات عالية من القضاة الشرفاء تم إيقافهم عن العمل وإحالتهم إلى الصلاحية بتهمة الاشتغال بالسياسة والاتصال بالإخوان. وقد أقحم مع هؤلاء حوالي 15 شخصا من الرموز القضائية التي نذرت نفسها للدفاع عن استقلال القضاء وعدالته منذ ثلاثين عاما. ووجهت إليهم اتهامات مضحكة بناء على تقارير أمنية ملفقة. وبعض هؤلاء يجري التنكيل بهم والكيد لهم بواسطة قضاة كان بعضهم متهما في عملية تزوير انتخابات عام 2005.

أدري أن في مصر أكثر من 14 ألف قاضٍ، وأثق في أن الإساءات والتجاوزات التي حدثت منسوبة إلى شريحة محدودة من هؤلاء. في حين أن الأغلبية لا تزال تنتسب إلى القضاء الشامخ الذي يحرس العدالة ويشرف مصر والمصريين. لذلك فربما كان الأدق والأصوب أن تنصب ملاحظاتنا على قضاة أو شريحة منهم وليس على القضاء في مجمله. وربما كان عذرنا في ذلك الخلط أن البقع السوداء أكثر ما يلفت الانتباه في الثوب الأبيض. أما كيف ومتى تزال تلك البقع؟ فالإجابة ليست عندي ولا عند وزير العدل، ولكنها عند الرئيس عبدالفتاح السيسي بالدرجة الأولى لأن أصابع السياسة وحسابات المؤسسة الأمنية ليست بعيدة عن المشهد.

(بوابة الشروق المصرية)